Search
Close this search box.

العودة إلى المدارس

العودة إلى المدارس

سلوى زكزك

يبدو الحديث مكرراً عن الصعوبات البالغة التي تعتري حياة السوريين في موسم العودة إلى المدارس، لكن لكل موسم مدرسي شجونه، وفي هذا العام كانت العودة للمدرسة أقرب من أي عام مضى، إذ تم تحديدها والمباشرة فعلياً بها في اليوم الثاني من شهر أيلول، وتزامنت مع عطلة عيد الأضحى ورأس السنة الهجرية أي عطلة طويلة للموظفين وأصحاب المهن وللمؤسسات الخاصة والعامة، أي أن السفر إلى قراهم الأصلية أو أريافاً أخرى أو منتزهات في قلب المدينة حيث يعيشون لقضاء عطلة عيد الأضحى كانا شبه لازمين بعد شعور غامر بأن الصيف قد ولى والسوريون حبيسي بيوتهم وأعمالهم المجهدة والضاغطة نفسياً، وذلك في تزامن مرّ مع التحضير لموسم المونة وهذا كله مرتبط بحالة قسرية من الإنفاق الضروري الذي يثقل كاهل الأسر ويجعل العودة إلى المدارس هما وشجنا خالصين.

ترافقت العودة إلى المدارس بارتفاع سعر الدولار لدرجة دب الذعر في القلوب والجيوب كما شهد الموسم تراجعا في دعم الجمعيات والمنظمات الدولية، ففي دمشق لم توزع أي منظمة دولية حقائب مدرسية للطلاب في حين أن المبادرات الأهلية قد عوضت جزءاً منها في شكل جديد من التكافل الاجتماعي فرض نفسه بقوة الحاجة ويفضله السوريون للترابط الحاد والوثيق في موقفهم من أهمية التعليم وقدسيته مع بلوغ نسبة كبيرة من الأسر السورية عتبة الفقر الحاد.

تقول جمانة: “لقد قامت لجنة منتخبة من قريتنا ومؤلفة من أربع سيدات بتغطية كلفة العودة للمدرسة لثلاثة عشر طالباً، وتضمنت التغطية اللباس المدرسي والحذاء الرياضي والحقيبة والكتب والدفاتر والأقلام، أما المصدر المادي؟ فمن مانح واحد من أهل القرية”.

واللافت لموسم هذا العام هو ارتفاع قيمة الكتب المدرسية والتي تصنّف على أنها مجانية، وخاصة ما بعد الصف الخامس الابتدائي وقد وصلت قيمة النسخة الكاملة من الكتب إلى سبعة آلاف ليرة، وفي معرض الحديث ذكر أب أحد التلاميذ أنه ذهب إلى أحد مراكز بيع الكتب المدرسية ونقصه خمسمائة ليرة أو التخلي عن شراء أحد الكتب، فما كان من رجل موجود في المركز لنفس السبب إلا أن دفع المبلغ الناقص لوالد الطالب الذي قبلها والخجل يغمره، فلم يعتد السوريون وخاصة الرجال على قبول إعانات مادية مباشرة مهما صغرت بهذه الطريقة المباشرة.

سامية سيدة أرملة وتعيش في غرفة مستأجرة في بيت شعبي في الطبالة، ولديها طفلتين في الصف الأول والثالث، تقول: “يصيبني موسم المدارس بالهياج وأشعر بأنني ملاحقة، والأصعب أن المعلمات هذا العام طلبوا صدرية جديدة وفولاراً وجوزة محددة اللون حسب كل صف وحذاء جديداً أسود اللون وحذاء رياضياً وملابس خاصة للرياضة، ولم يتساهلوا أبداً في عدد الدفاتر وأنواعها، بل طالبوا بدفاتر السلك لكل مادة تحت ذريعة أن هامشها أوسع وإن تمزقت ورقة يحافظ الدفتر على وحدته كاملاً!!” دفتر سلك بثلاثمائة ليرة لمادة الديانة للصف الأول، عدا عن أنواع أقلام التلوين ودفاتر الرسم باهظة الثمن لأنها مصنوعة من أوراق الكانسون تحديداً وعلبة الهندسة والقصات وأوراق الأشغال، والتي يبدو أن المنطق يقول بأنها من واجبات إدارات المدارس لا الطلاب ولا ذويهم؟؟ “يبدو أنه لا حدود للهمجية”، هكذا تقول سامية وتؤكد بأن لديها شعوراً غامراً وحقيقياً بأنها مجرد جثة مثخنة بجراح الفقد والحاجة والغلاء وغياب أبسط الظروف الإنسانية للعيش، والجميع ينهش بجراحها.

وفي ظل تخلي المنظمات الدولية أو الكنائس أو جمعيات الطفولة عن تقديم سلة غذائية أو وجبة فطور صباحية في المدارس وفي ظل ارتفاع حاد لأسعار الأجبان والألبان والزيوت وحتى لخبز الصمون القابل ليكون لفافة مشبعة وغير قابلة للانفراط والتحول إلى مجرد كسرات خبز يابسة تغدو السندويشة المدرسية عبئاً ثقيلاً ومربكاً، لا قدرة للكثيرين من تغطيتها، فتكثر سندويشات المكدوس والزيت النباتي مع الزعتر كبدائل لوجبات صحية وضرورية.

ومن الصعوبة بمكان تجاهل نفقات النقل من وإلى المدرسة وشروطه غير الصحية وارتفاع أقساط المدارس الخاص ضعفاً كاملاً، مع الإشارة إلى أن الحضانات مدفوعة الأجر وأحياناً تكون كلفة المواصلات مساوية للقسط الشهري، هذا عدا عن تحكم سائقي التكسي وسيارات الفان التي تشبه الباصات الصغيرة بقيمة بدل النقل ومسار خط النقل مما يؤذي الأطفال صحياً ونفسياً ويقضي على كل ما في جيوب أهاليهم.

في ظل انعدام خطوط الأمان الاجتماعي وغياب شبكات الرعاية المجتمعية الداعمة لمسار التربية والتعليم وفي ظل تغول تجار السوق وتجاهل المسؤولين وجمود السياسات اللازمة لكبح الغلاء المتوحش واهتلاك قيمة العملة الوطنية، يصير عبء الحياة اليومية حملاً ثقيلاً كجبل، ويصير الدفتر المدرسي حلماً والسندويشة غاية في حد ذاتها، قد تموت من فقدانها طفلة أو قد تكلف أهلها ما يعجزون عن تأمينه لعلاجها من سوء التغذية، وهذا باب واحد من ألف باب للحاجة والشكوى وتعميم اختلال موازين المساواة أو على الأقل عسرة تأمين الحقوق الأساسية، وتصبح العودة إلى المدرسة مساراً عسيراً مقلقاً ومربكاً ويلتحق المزيد من الأطفال بالأعمال بدل الدراسة، أعمال مضنية ومجحفة، والمحصلة النهائية للتنمية تغدو في أدنى حدودها وخارج دائرة الجدوى.

دمشق

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »