متى يتداخل مفهوما العمل المدني والعمل السياسي ومتى يفترقان وهل يمكن الفصل بينهما دائماً؟ وهل يمكن للعمل المدني أن يكون حياديا في زمن الثورات او الحروب أو في الأوقات الاستثنائية التي تمر بها المجتمعات؟
أسئلة باتت تطرح كثيرا هذه الأيام لدى السوريين المنتمين للثورة ممن فضلوا الابتعاد عن العمل المسلح، خصوصا في تمظهره الحالي الذي ينطلق من فكرة (الجهاد ) الديني والتي تكاد تجعل من الثورة السورية حرب المؤمنين ضد الكفار والمشركين ضاربة أهداف الثورة ومبادئها والحلم بالتغيير الديموقراطي والدولة المدنية المأمولة بعرض الحائط، وربما، في ظل صوت السلاح العالي ورائحة الدم التي تملأ سوريا قد يعتقد البعض أن مجرد التفكير بالعمل المدني هو نوع من أنواع الترف الذي تمارسه عادة النخب المثقفة، خصوصا أن واقع الحال السوري أنزل هذه النخب إلى الأرض ووضعها بالعراء مثلها مثل باقي السوريين ونزع عنها صفة النخبوية وأجبرها على خوض العمل السياسي اليومي بكل مساوئه وسلبياته، ويقينا أن مفهوم المجتمع المدني والعمل به كان شبه ملغي خلال العقود الخمس الماضية، أي منذ استلام حزب البعث للسلطة، حيث تحولت سوريا بكاملها إلى دولة شمولية أمنية ترتبط مؤسساتها بالنظام ارتباطاً وثيقاً، مما ألغى فكرة الدولة لصالح النظام وبالتالي هذا الإلغاء يستلزم الغاء آخر لكل ظواهر المجتمع المدني من نقابات وهيئات مستقلة قادرة على الفعل المجتمعي ومراقبة أداء الحكم والاعتراض عليه وتنظيم الاحتجاجات الشعبية وهو ما يعني بشكل من الاشكال جزءا من العمل والحراك السياسي في المجتمع، وهو ما انتبه إليه النظام السوري الأمني فعمل على منعه تماما بل ولاحق كل من يفكر بالعمل به وزجهم بالمعتقلات السياسية واستبدل لاحقا مصطلح (مجتمع مدني) بـ (مجتمع أهلي) في محاولة منه لالغاء المصطلح من الوعي الجمعي السوري.
ولعل في تجربة ربيع دمشق الشهيرة ما يؤكد ذلك، إذ بعد وراثة بشار الأسد للسلطة ساد مناخ بدا انه تغييري ومنفتح اجتماعيا وسياسيا فانتشرت المنتديات الثقافية والفكرية في سوريا، و قد شكلت قبلها مجموعة من الانتلجنسيا السورية (حوالي أربعين شخصية) جمعية حماية المجتمع المدني وتم تقديم الطلب رسميا للموافقة عليه وترخيصه، بناء على بوادر التغيير التي كان يروج لها إعلاميا وقتها، والملفت أن النظام تعامل مع هذه الجمعية بالقول عنها أنها: البيان رقم واحد! وهو ما جاء على لسان نائب رئيس الجمهورية وقتها، والبيان رقم واحد عادة هو بيان انقلابي، مما يعني انه تم التعامل مع هذه الجمعية كجمعية سياسية وليست مدنية وهذا ما يبرر سلوك النظام بعد مدة قصيرة جدا حينما بدأ يتراجع عن وعوده بالانفتاح وينكل بالعاملين بالشأن العام وبهيئات المجتمع المدني ويخترع تهمة جنائية تسمى (وهن نفسية الأمة) والتي اتهم بها كل من اعتقل لانتمائه لإحدى هيئات المجتمع المدني.
إذا، فإلأنظمة الشمولية تعي جيدا أن وجود هيئات المجتمع المدني في مجتمعاتها هو جزء أساسي من الحريات الفكرية والسياسية وهو ما يجعل من المجتمع في حالة حراك دائم وهذا آخر ما تريده هذه الأنظمة لهذا تعمل على وأد ظهور هذه الهيئات منذ البداية، وعادة ، في الدول ذات النظم الديموقراطية، ما تقوم هذه الهيئات بتنظيم الاحتجاجات التي قد تتحول إلى ثورات تغييرية منظمة، أما في حال الثورة السورية فالأمر مختلف تماما، مجتمع لا يوجد فيه أي شكل من اشكال العمل المدني او السياسي المعارض وفجأة حدث فيه هذا البركان العفوي والغير منضبط والذي اتخذ اشكالا عديدة وصلت إلى حد التطرف دون أن يعيق هذا ظهور تجمعات وهيئات سورية جديدة تندرج ضمن اطار هيئات المجتمع المدني كنوع من أنواع المقاومة المدنية سواء داخل سوريا او خارجها وكتدريب على العمل المدني الذي لا تعرفه شريحة واسعة من السوريين في خطوات تحضيرية للمرحلة الانتقالية، ولكن واقع الحال السوري فرض على هذه الهيئات عملا سياسيا مباشرا، فمجرد الانخراط بالثورة هو عمل سياسي بحد ذاته، مجرد الإعلان أن هذه الهيئة أو تلك هي من نتاج الثورة هو اعلان سياسي أيضا وبالتالي سيجعل من هذه الهيئات وأعضائها منخرطين تماما بالعمل السياسي والثوري حتى لو تحت بند (العمل المدني) .
الفصل بين الاثنين يحتاج لحياة مستقرة في ظل نظام ديموقراطي حقيقي وفي ظل دولة تؤمن بمبدأ التشاركية مع المجتمع ولا تكتفي فقط بمؤسساتها الحكومية بل تعمل على مساعدة مؤسسات المجتمع المدني على الوجود والمراقبة وضبط الأداء الحكومي وخلق حركة دائمة فعالة بالمجتمع، ولعل هذا هو أول ما حلمنا به نحن السوريين، وحتى تتحقق دولة المواطنة الديموقراطية التشاركية وتبدأ منظمات المجتمع المدني بالعمل مستقلة عن السياسة سيبقى هذا الترابط موجودا ولا يمكن فصله إلا لمن ما زال مصرا على التصرف كنخبة في وقت سقطت فيه النخب وتعرت تماماً.
رشا عمران