منتهى ناصيف
كنت أمام بيتي كالمعتاد أكنس الحزن والقلق بمكنسة القش المهترئة وأنا أتمتم تعاويذي الصباحية التي أهدأ بها مخاوفي، عندما وصلتني أصواتهم فاخترقت جدران قلبي وجعلتني أنتفض وأسير باتجاههم.
الشوارع التي كان يلفها الصمت والترقب فاضت فجأة ببشر من كل الأعمار والأطياف، ساروا باتجاه الساحة الكبيرة وهم يهزجون أغنيات شعبية حماسية، ويرددون هتافات رعدت في سماء المدينة، وجعلت حجارة البازلت ترقص فرحاً، الهتاف كان يحمل لحناً منفرداً جعلني أتلمس خيط نور، فنحن من ابتلينا بالعتمة لسنوات نستطيع أن نستشعر النور ولو كان بعيداً.
نظرات زوجي المحذرة التي وصلتني من الشرفة لم تثنيني عن عزمي، فلقد مللت من كلمة “الله يهدي البال”، هرمنا ولم يعد هناك مُتسع لهدوء البال في زحمة اليأس والخيبات، نحتاج هذا البركان ولو كانت ناره ستؤذينا، لعلنا على الأقل نكسب احترامنا لذواتنا، وأمام أولادنا والأجيال القادمة.
سرت مع الناس دون أي تردد، إنه التوق للانعتاق، التوق لأن تكون مع مجموعة بشرية يجمعك بهم ذات الوجع، فلقد عانينا من اغتراب كبير خلال السنوات الماضية عن محيطنا وداخل أسرنا، وعن أولادنا ، ففي الحرب يصبح الخلاص الفردي هدفاً وأولوية، الكل خائف من الكل، كل فرد يحاول أن يجد خلاصه بمفرده، بعضهم يسعي لامتلاك السلاح اذا استطاع إليه سبيلا، وبعضهم يسعى للهرب طالما أنه لا يستطيع البقاء ومواجهة العنف اليومي المحيط به، انا اخترت لأولادي الهرب، قلت لهم : “طالما أننا لا نريد العنف ولا نستطيع مواجهته … انجوا بأنفسكم يا أحبتي”. كنت أعتقد أنه خياري الوحيد، حتى سمعت أصوات الجموع. نعم! هناك خيارات أخرى وعلينا أن نمضي إليها بكل قوتنا، هناك خيار ثالث بدأ يبزغ كضوء بسيط ثم سرعان ما انطلق لينشر الأمل في القلوب.
مشيت وحنجرتي تغني معهم: “خسا من قال عيشتنا ذليلة “…
“لما لا نحتج على انعدام الخيارات؟”، سألت نفسي دون أن أنتظر الإجابة، مضيت باتجاههم، ذبت بهم، عندما تذوب بين الجماعة يسقط الخوف، تسقط معه كل ذكرياتك القديمة عنه، عن مخاوفك من الخسارة والفقد والألم، كأنك لم تكن قبل هذه اللحظة، هنا بداياتك، هنا خلقت من جديد.
جارتي السبعينية، أم حسّان، تسبقني بخطوات، تحمل صورة ولدها متجهة إلى هناك، ما أن تصل حتى تبدأ تلهج بصوت مخنوق، لم نفهم ما تقوله في البدء، لكن ما أن وصلت للساحة حتى صرخت بعلو صوتها: “بدي ابني”.
عندما سمعَتهم يهتفون: “حرية”، نَزلَتْ من بيتها لتنضَم إليهم، فهذه الكلمة كانت عشق ولدها، وآخر ما قاله قبل أن يغيب قسراً.
أخبرتنا كيف كانت تجلس أمامه ليشرح لها ما الذي تعنيه هذه الكلمة الصغيرة، وكيف كانت تضحك بنهاية كلامه وتقول: “مافهمت عليك شي!”، فيبتسم ويقول: “الحرية يعني هالضحكة، ضلّي اضحكي …”
من يوم اختفائه غابت ضحكتها، واليوم عندما شعرت أن هناك من سيكمل ما بدأه ولدها عاد إليها الأمل، ورغم تعبها ومرضها أصرت أن تبقى واقفة، تقول لتشجع الناس: “البلاد طلبت أهلها”. نجتمع على هتاف واحد فننظر لبعض تلك النظرة السابرة، فعندما تتلاقى الأعين تطمئن القلوب بأن الوقت قد حان لحرق سفن الذل والخوف. في الساحة الكثير من النساء والأمهات مثلها وقد أخذن مواقعهن في الصدارة، أغلبهن أقلعن عن أخذ الدواء والمسكنات حيث أن نزولهن للساحة كان “أفضل علاج لهن”، هكذا سمعتهن يتمازحن فيما بينهن.
نزلت أم مهند التي تسكن في بناء في الحي، كانت قبل لحظات تقف على شرفتها ترفع جهازها الخليوي ليشاهد ابنها في المهجر جموع الناس يهتفون، كانت قد دأبت على تصوير كل ما يحدث له، عندما فجأة أتتها كلماته الساخرة:
“إذا مانزلتِ معهم للساحة رح إزعل منك”.
ضحكت في البداية، فلقد اعتاد أن يمازحها، وعلى الرغم من تأكيده إنها مجرد نكته، لكن حشرجة صوته بقيت عالقة في مسامعها، اختناق كلماته وهو يقول: “صار عنا أمل نرجع، والله اشتقنا يا إمي”.
علمت بتلك اللحظة أن عليها ان تفعل ما بوسعها ككل الأمهات، فهو ليس بخير مثل كل الذين هجَّرتهم الحرب. هي التي تقول دائما لتطمئن نفسها أن أمانه ومستقبله أهم من كل العواطف، تحتاج الآن أن تبكي، وتعترف أنها تشتاق أن تشمه وتحضنه، تتخيله يعود متعباً، يضعُ راسه على ركبتها كما كان يفعل دائماً، يغمض عينيه ويقول لها: “سميلي”.
تحتاج لعودته فهي تعلم أن من ذهب قسراً وبات لاجئاً سيضل مكسوراً ومهزوماً، حتى لو حقق آلاف النجاحات هناك.
“لا نجاح يسعدنا إذا كنا مهزومين في أوطاننا“، قالها لها مرات عدة عبر الهاتف.
رتّبت غطاء رأسها ومسحت دموعها وسارت باتجاه الساحة وهي تقول بعلو صوتها: “اشتقنا لأولادنا، بدنا اللاجئين كلهن يرجعوا”.
كل الشرفات تراقب الساحة، حتى تلك التي أغلقها أصحابها حتى لا يحسب عليهم أنهم مشاركون أو مشجعون، لكنهم كانوا خلفها يراقبون، كل الأيادي ممدودة هنا للعطاء، ورود تتساقط على رؤوس الناس، وحبات سكر مغلفة بالحب، كثيرات يهللن ويزغردن، الساحة باتت شرفة كبيرة تطل على وطن ننتظر ولادته، وكل يوم تغص بالمزيد من الناس والأصوات.
بمجرد دخولك إلى هناك ستمتلك لغة جديدة دافئة فكل الحناجر تصدح بعفوية وتناغم، وكل الوجوه هناك تصبح مألوفة يجمعك معها مشاعر لا يمكن وصفها، سعادة تعترينا وتجعلنا واثقين أن هذه الأيام لن تكون كسابقتها، فتلك الساحة باتت وطننا المنشود، وعندما نتركها تبقى أرواحنا معلقة على سورها البازلتي لتحرسها، وننتظر الصباح بلهفة كي نعود إليها من جديد.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”