منتهى شريف
أطَّلت مذعورة، بعد ان قاطع حُزنَها وَوحدتَها طَرقٌ قويٌ على الباب.
تفحصتهُ مستغربة، كان شرطي شاب يحملُ أوراقاً تحتاجُ توقيعَها، بلَّغها ان تغادر البيت وتتركه لمالكيهِ الجُدد، وأكَّد على ضرورةِ مراجعتِها المحكمة.
لم تعلم كم مضى من الوقتِ وهي جامدة أمامهُ، تُحاول استجماع قوتِها لتُصدق ما تسمع!
قالت متلعثمةً: لكنَّه بيتي! فما كان من الشرطي الاَّ ان أشهَر لها ورقةً تُثبت أن اهل زوجها يطعنون بذلك.
دارت حولها جدران البيت، ودارت معه صور أجداد زوجها المعلَّقةِ على الحائط، وعادت لمسامِعها كلمات نساء العائلة: “انتي ما عندك أولاد، مارح تورثي شي عنا”
اغلقت البابَ وراءَ الشرطي الذي نصحَها ان توكِّل محامياً، مؤكداً ان اهل زوجها يستعجلون الأمر.
لم يمضِ وقتٌ طويلٌ على وفاة زوجها، لم تتركه اثناء مرضه، بل استحوذ على كل اهتمامها كما لو كان طفلَها الذي لم تنعم فيه طوالَ سنوات زواجها العشرين، الى ان أصابه سباتٌ لم يستفقْ منهُ ابدا.
ابتعدت عن الصالةِ التي تتوسط البيت هاربة من شبح الصور وأصواتهم الشامتة، دخلت غرفة نومها وبدأت البحث في صندوق الأوراق المركون بجانب المرآة، لعلها تجد وصيَّة وعَدها ان تكون جاهزة لتحفظ لها حقوقَها، وتعيش ما تبقى من عمرها آمنة، لكنها لم تجد شيئا!
حاولت لملمَة شَتاتَ فِكرها وهي تعيد الصُّندوق الى مكانه.
فجأة همست المرآة في أذنها: “انتي ماالك شي هون انتي ماعندك أولاد”.
اقتربت منها لتتأكد انه لم تُصب بالجنون!
فأعادت المرآة كلماتها الساخرة، عندها هجمت نحوها بكل غلِّ لتحطِّمها، لكن ما ان اقتربت منها حتى اكتشفت حجم الكارثة، عندما بحثت عن ملامحها ولم تجدها، لقد تغيرت كثيرا ولم تعد تعرف نفسها!
تساءلت: منذ متى فقدت لمعة عينيها وابتسامة كان يتغزل فيها الجميع؟ أين ذهب ذاك الوله الذي كان يكلل خديها؟ ومتى انطفأت تلك الروح؟
ردَّت المرآة: انت لست سوى خيال.
_ يا للمرآة اللعينة، لابد ان البيت بات مسحورا_ حدَّثت نفسها بهذا، فلطالما كان يرعبها ّ صُّور الموتى وانعكاسها في المرايا، تخيلت زوجها ينضم إليهم.
وضعت الشال الصوفي على كتفيها وخرجت هاربةً من ضجيجِ افكارِها وتساؤلاتِها.
خَطواتها الحائرة أوصلتها لبيت أهلها.
وقفت أسفل درج البناء تنظر في خيبة، تخيلت صوت والدتها من الشرفة يرحب بها: “انتي جيتي ياحيالله…”، وما أن صعدت درجته الأولى حتى تلاشى ذاك الطيف الجميل مع الغيم الذي بدأ يقطر فوقها.
ذكرياتها بدأت تتدلى مع أوراق العنب التي غطت صحن الدار.
سالت نفسها: كم من الافراح والاحزان والحكايات شهد هذا الدرج المتهالك وتلك الدالية؟
شعرت أن منزلها العتيق مثقل بالذكريات المؤلمة ويحتاج ان يهرب منها.
بات باردا ومعتما بعد وفاة أمِّها، غير أن أصوات أولاد اخوتها التي انطلقت من داخله طمأنتها ان الحياة مستمرة فيه. تنهدت وهي تفكر: كم مرَّة تمنَّت ان تحضنهم وتدللهم؟ متجاهلة نظرات وهمسات أمهاتهن: “هذي عينها فارغة ما عندها أولاد…”
كانت تعلم انهم لم يتركوا غرفة واحدة لمقطوعة خائبة قد تعود مثلها، على الرغم من حرص العائلات في السابق على ترك_ بيت للمقاطيع_ لكن يبدو ان الحرب التي لم تهدم المنازل في منطقتها، سكنها الشحّ والفقر والانانية، اذ تقاسم أخوتها الذكور المنزل دون ان يتركوا خيارا لها بالعودة.
مشت في شوارع البلدة.
بدأ المطر يداعب وجهها القمحي، فتفتح عنه ابتسامه صغيرة، مثل وردة داعبتها الريح، طمأنتها بأنها قريبا ستألف الغياب واشياء لم تتوقعها، وستكون مثل آلاف المهجرين الذين هدمت الحرب بيوتهم.
لأول مرة تفكر فيهم، كم كان ذلك موجعا لهم، تذكرت اثناء رحلتها الأخيرة مع زوجها للعلاج في حلب.
كيف سارت بها الحافلة وهي تجتاز الأبنية المهدمة والمهجورة، شعرت يومها ان البيوت تحاول الهروب واللحاق بأصحابها، عددها الكبير الذي امتد محاذيا الطريق صدمها، وجعلها تغمض عينيها كي لا تعلق في ذاكرتها.
لم تنتبه للمسافة التي قطعتها وهي تمشي، لكن اقدامها لم تعد تحملها، جلست على الحافة تحت مظلة حديدية في حديقة البلدة، حيث الكثير من المشردين هناك. هي مثلهم الان وحيدة منسية لا جدران تسند وجعها.
المطر الذي بلل ثوبها وشعرها، اختلط بدموعها وجعلها تغرق في حزنها.
لم تعلم كم مضى من الوقت وهي جالسة هناك، لكن اصوات المشردين الذين امتهنوا البيع والشحاذة طمأنتها انها ليست الوحيدة التي بقيت في تلك الحديقة المنسية.
فجأة ايقظتها من غفلتها يد فتاة صغيرة مشردة، سألتها: ” انتي كمان ماعندك بيت؟”
لم تستطع ان تجيبها فالدموع خنقتها.
يد الفتاة الصغيرة جعلتها تشعر بدفء عجيب، تسلل الى قلبها وجعل عينيها تمطر بغزارة.
اقتربت الفتاة منها اكثر وقالت متسائلة: “انتو الكبار ليش بتبكوا كثير؟انا ماعندي بيت ولااهل بس ماببكي”.
في هذه اللحظة انفجرت دموعها التي حبستها منذ سنوات.
لم تبكِ هكذا من قبل، على الرغم من حرمانها من نعمة الانجاب، حتى عندما توفيت أمها لم تبك هكذا.
لم تعرف سر ما فعلت فيها أصابع وكلمات تلك الطفلة، ربما لأنها منذ زمن لم تتحدث مع أحد.
كثيراً ما شعرت انها ستفقد صوتها وان هذا ما يجعلها عاجزة.
في حنجرتها كان ثمة صرخة عالقة، وهي التي حبستها لأنها المرأة العاقلة، الان تحتاج ان تصرخ وتبكيَ كثيرا، ورغم الزحمة الخانقة لأول مرة تكتشف ان الكثير مثلها غرباءُ ووحيدون.
هي الان مثلهم تشتهي أن تستوقف غيمة مارقة تتشبث فيها، تحضنها وتقول لها انا متعبة
خذيني واذرفيني دمعا او مطرا فوق هذا اليباس.
كانت تنظر للطفلة لتتأكد انها ليست حلما اوجدها خيالها، عندما توقف المطر ولمع قرص الشمس كجمرة
وبتلك اللحظة ابتعدت الصغيرة ملوحة لها بيدها، سارت مع بقية الأطفال وراء رجل كبير علمت انه المسؤول عن ايوائهم.
بركان الأسئلة الذي اندلع لحظة انغماس الحقيقة في الخيال جعلها تنتفض وتسير اتجاه بيتها
معلنة حربها على من سينتزع حقها في الوجود…
الان فقط تستطيع تحطيم الصور المعلقة ومواجهة كل المرايا.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”