منتهى شريف
منذ خمسة عشر عاماً وأنا أعمل كمعلمة صف أول، أود أن أعترف الآن بأني بدأت أشعر بالإحباط والخجل أمام تلاميذي، فمهما حاولت إخفاء دموعي خلف نظّارتي أو الادعاء أمامهم أنّي بخير, إلا أن جدران الصف الأربعة التي تعبّتُ بتزيينها قد فقدت معناها، وكل الكلمات وجمل تجميل الحياة لهم أصبحت تتعبني. علي أن أعترف أنّي دخلت بدائرة واحدة باتت تلتفُّ حولي, وتصيبني بالدوران هي دائرة الخيبات المتلاحقة والوهم الذي ينكسر كل يوم ويكسرني معه، أمام عيونهم البريئة التي لن تفهم ما أعنيه.
اليوم و انا أحاول كتابة هواجسي توقفت أنظر من نافذة الصف التي تطل على الشارع. تركَتُ القلمَ والورقة, وأَشَحتُ بِنظَري للبعيد مُتسائلة: هل صحيح ما أفعلهُ؟ من سيقرأ رسالتي؟
لكن الحروفَ عادت تتراقَص أَمامي بِقوة, مُعلنةً حقيّ بالكلام، فتابعت الكتابة.
لم أكن اعلمُ أن تلك الأسئلة ستحاصرني يوما:
“أين أذهب بأربعين تلميذ وتلميذة بصف يضيق بنا، ومنهاج جديد سيعيدنا أكثر من مئة عام للوراء؟ كيف أكون بوصلة النجاة لهم؟ وماذا أفعل أمام عيونهم التائهة التي تفتحت على الحرب, ونظراتهم التي تجلدني كل لحظة؟
لماذا نُجبَر على خوضِ معارك غير عادلة؟
فجأةً تدخل من النافذةِ نفحةٌ من هواء الخريف تبعثر أوراقي عن الطاولة، ويلوح لي خيال أم سلوان وهي تضحك مني ساخرة، أترك الكتابة, وأركض للخارج.
تذكرت ذلك اليوم الذي كنت أسير فيه للمدرسة بخطى ثابتة ,عندما فاجأتني، وقطعت طريقي فبادرت بإلقاء التحية عليها وهممت بإكمال سيري, لكن صوتها باغتني ونجحت بإيقافي، عندما قالت مُحذرةً:”يا بنتي … خلي الأولاد يرجعوا لبيوتهم, خليهن يشبعوا من أحضان أمهاتهم قبل أن يرحلوا للبعيد!”
حاولَتُ الردَ عليها مُستفهمة, لكنها ابتعدَت كشبح ضاربة بعكازها الطريق بعد أن أثارت داخلي زوبعةً من الخوف!
هي عجوز غريبة الأطوار, قليلاً ما تخرج من بيتها المتطرف، وقلّة من يعرفون كيف تعيش بعد أن فقدت أكبر أولادها أثناء هجرته وغرقه في البحر، وبعد أن نجحت الحرب بإخفاء ولدها الثاني فيما بعد ، عندما اختُطِف وغاب قسراً.
هي قررت أن تنتظرهما غير مصدقة ما جرى.
أقسم الجيران أنهم سمعوها ليلاً وهي تغني لولداها وتحدثهما وكأنهما لا يزالان معها!
نفضتُ عني تلكَ الخيالات, وعدتُ لإكمال رسالتي:
“كنتُ ممن يصرون على الاستمرارِ بالعمل، مبررةً أن هؤلاء الصغار هم الاستثمار الوحيد الذي يعوَّلُ عليه. كنت أاستمتع وأنا أراقبهم يلعبون بعفوية, تلفَحهم ريح ُ الخوفِ، فيبتسمونَ لها ببراءةٍ وكأنها تداعبهم, لكنها يوماً بعد يوم بدأت تزاحم فضاء تفاصيلهم وتبقي الأمل مصلوباً عند حدود طفولتهم.
” كل مرة أدخل الصف أحاول أن أطمئن نفسي أننا على ما يرام، فأجدني أكذب . كل شيء بات يحاربنا, بدءً من السبورة المليئة بالحفر والطباشير المغشوشة, مروراً بالمنهاج الجديد ووسائله المساعدة التي لم تصل للمدارس، وانتهاءً بالقلق اليومي الذي يُكبلنا, فالفصل من العمل بات كفكيّ قِرش يُهددنا كلّما حاولنا التَّحليق خارج نطاقِ التَّعليمات.
“كنت قد قررت أن أتجاهل مخاوفي وأسير مع القطار, على تلك السكة المرسومة، متقيدة بالقوانين لكني وفي كل مرة أبدأ فيها بالمحاولة أرى أم سلوان تلوِّحُ بعكازها من خلف الصف وتحاصرني بنظراتها, فأبتلع كلماتي.
“أقفل النافذة محاولة إكمال رسالتي , فتتوه مني الكلمات , وينتصب فجأة أمامي خيالها وهي تنذرني: “قلتلك … خليهن يرجعوا على بيوتهن …”
أترك رسالتي وأحاول البدأ في الحديث معهم لكن الكلمات تخونني. أتوقف بعد أن أتيقن من خيبتي وأحدث نفسي:
“أيعقل أن أساهم بدفع القطار للخلف على تلك السكة الغبية؟” هي مشكلة منهاج يسعى للتأكيد على الانتماء للعائلة وللقبيلة وللطائفة, سيكلفنا مئات السنين لنعود بهم عن هذا الطريق.”
أقرر أن أخرج عن النص وأحكي للأولاد حكاية الحقول والبذار والمحصول, فيقاطعني صوت إطلاق نار ترافقه جلبة غريبة في الشارع المحاذي، لكن الصوت يبدأ بالاقتراب من المدرسة, أكثر فأكثر ويجعلني أتجمد في مكاني وتكاد أنفاسي تتوقف خوفاً على الأطفال.
هم مجموعة من الشباب السكارى يركبون دراجات نارية يحملون السلاح ويكيلون السباب لبعضهم. إحدى رصاصاتهم تخترق نافذة الصف.
أستعيد صوت أم سلوان: “ما قلتلك خليهن ببيوتهن!” أغلق أذني وأتجاهلها.
نبقى أنا والأطفال مصلوبين في زاوية قصية تزدحم بنا إلى أن ينتهي أمر الشبان بسقوط أحدهم عن دراجته ومقتله ورفيقه.
خلال دقائق يبدأ ذوي الأولاد بالولوج للمدرسة مرعوبين وأبقى مصابة بالصدمة. تمضي دقائق بعدها لأصحو على الفراغ. كلهم ذهبوا ولم يبق من المشهد الصباحي إلا بعض الحقائب الملقاة على أرض الباحة وقد خرجت كتب المنهاج الجديد من بعضها لتذكرني بخيبتي التي تشكل مع المشهد لوحة كاملة لن تزول من ذاكرتي بسهولة.
أصل إلى البيت بينما لا تزال عيناي في الطريق تبحثان عن أم سلوان.
أنام باكراً ليلتها للهروب من التفكير، لكن ضحكات العجوز الشامتة توقظني على كابوس.
في اليوم التالي أقرر أن أتغلب على مخاوفي وأوهامي:
أمشي باتجاه بيتها وأقترب من الباب وأنادي اسمها، لكنها لا تفتح الباب. أطرق بقوة وأصيح بملئ صوتي : “يااااا ام سلوان!”
يقترب مني أحد الجيران ويسألني ماذا أريد منها، فأخبره أنّي أريد محادثتها. فيصدمني بضحكة ساخرة قائلا: “بس أم سلوان ماتت من زمان!”
أدور من جديد حول نفسي وتدور كل الجهات حولي بعد أن تمطرني بالأسئلة.
أركض إلى بيتي غير مصدقة. أمسك بالرسالة التي كتبتها للتو وأبدأ بتمزيقها، ثم أقترب من النافذة و أسلم نتفها الصغيرة للريح.
خاص “شبكة المرأة السورية”