غالية الريش
تحية إلى أهالي المفقودين في صبرهم العنيد وصلابة أملهم*
مرّ هذا اليوم في حياة كل منا، دون أن يلقى اهتماما ًأو تضامناً فعلياً مع أهالي المفقودين، الذين لايزالون بعد سنوات الغياب، في حالة الإنتظار الممض والمؤلم… وكما توحد الكارثة الناس على اختلافها، وحدت حالة الفقد لمئات وآلاف المفقودين الأهالي، ليس بظرف معاناتهم وحسب، بل أملاً في الكشف عن الطرق التي من شأنها حسم ملف المفقودين.
يبدو العالم العربي مسرحا لتلك الحالة التراجيدية، وفي كل بلد عربي، من دول خليجية وصولاً إلى دول مغربية، تتوزع الكارثة ومسؤوليها إما على يد الجهات المفترض أن تختص بالأمن والسلام الاجتماعي “الدولة”، أو على يد الجماعات المسلحة التي أتاح ظهورها حرباً اهلية أو نزاعاً مسلحاً كما هو الأمر في سورية حالياً، وكما كان عليه الحال في ظروف الحرب الأهلية اللبنانية 1975-1990 وفي كل بلد عربي ثمة آلاف التجارب المأساوية عن حالة المفقودين الذين تاهت في معرفتهم كل السبل،
في سورية كان القمع والفقد الحصاد الآثيم لسنوات الديكتاتورية، وحيث كان الصمت سيد الموقف في ظل تواطؤ دولي رعته حقبة الحرب الباردة بين القطبين، ومن أرادوا الصمت على ممارساتها، تشهد سنوات الحرب الداخلية بين النظام ومؤسسته العسكرية والأمنية وبين تنظيم الطليعة المقاتلة الأخواني 1979-1982 وما خلفته، من كوارث اجتماعية وانسانية وسياسية شكّل الاعتقال والفقد عشرات آلاف الشباب ، لاتزال آثارها مخيمة في كل تفاصيل حياة مئات آلاف المواطنين بعد 40 سنة من الإنتظار ، وجاءت سنوات الجمر الأخيرة2011-2018 ولاتزال، لتكرس آلاف الوقائع الكارثية على صعيد اتساع ظاهرة الخطف والفقد أضعاف ماكانت عليه في السابق ومن جبهتي الصراع وهو ما ستبقى ذيوله وآثاره لزمن طويل، بعد انطواء الحرب.
في سنوات الحرب السابقة ،الفقد سواء بالإعتقال التعسفي، أو الخطف، من اختصاص جهة واحدة هي السلطة الديكتاتورية السورية بلا منازع تقريباً، وغالبا كان الفقد بعد اعتقال، ثمة حالات من الفقد الجماعي تمت ملاحظتها والحديث “الهامس” عنها آنذاك أثناء مجزرة حماة شباط 1982 … اختفى الآلاف من أبناء مدينة حماة، في معسكرات الاعتقال الاعتباطية، في ساحاتها العامة ومدارسها، ومقراتها الأمنية- العسكرية، وأثناء إطلاق النار العشوائي على المئات من طلب إليهم الفرار ، ليموت من يموت، أو يتم اقتياده إلى سجن تدمر الصحراوي، وهناك سيتكلف مئات المجرمين والقتلة بالتنكيل بالوافدين الجدد، ليضيع أثرهم. سجن تدمر كان مقبرة جماعية للأحياء القابعين فيه وأهم ” كود” لعمليات الإخفاء القسرية التي جرت في ثمانينات القرن الماضي، والتي لا تزال آثارها قائمة، بدليل توقف وتعثر عشرات الإجراءات الحكومية والقضائية بسبب وجود – مفقود- لأمر يتعلق بالميراث او تصفية حقوق عائلية، وهو ماكان يصطدم بالموانع البيروقراطية التي لاتسمح بإثبات وفاة الشخص المعني، فالمفقود في سورية ليس بحي ولا ميت، ومامن جهة تصرح بمصيره. وفي بلد يغرق بالفساد والإنحطاط والخوف، غالباً مايتم الإلتفاف على الملف بحفنة من المال والذهب، وطيّ ملف المفقود ليصار إلى تمويته أصولا ًدون دفن لائق، تمهيداً لإجراءات عائلية تأخذ مجراها في مواضع الميراث والأحوال الشخصية.
أما في الحرب التي لانزال في أتونها، فإن تنامي أعداد المفقودين في السنوات السبع، كان واحدة من أخطر أعراض الحرب السورية وأكثرها مدعاة للمرارة. هذه الحرب التي لم يكن النظام وحده، اللاعب الأوحد فيها، بل كان ولايزال على الأرض عشرات اللاعبين من الفصائل المعارضة المسلحة التي اتخذت من اعتقال وخطف موالين وعناصر من جيشه وأجهزته نهجا ًلايقل وحشية عن نهج السلطة الديكتاتورية، ولايزال الآلاف من المفقودين دون معرفة مصائرهم وأسباب اختفائهم، ولاتزال لوعة انتظارهم لاتقل ألماً عن لوعة انتظار المفقودين الذين تسبب النظام وأجهزته وميليشياته، في فقدهم. الانتظار: القاسم المشترك الأعظم للأمل والألم، للأهالي من كلا الطرفين المتحاربين، على اختلاف مواقعهم وخنادقهم.
مامن مواطنة أو مواطن في سوريا، إلا ويئن وجعاً بغياب قريب أو حبيب، صديق، أو زميل عمل.الميليشياوية سمة كل أطراف الصراع بما فيها وحدات الجيش النظامي، فضلاً عن قوى الشبيحة أو ماتم تسميته “قوات الدفاع الوطني” وقد أفلتت من اي عقال، والمسؤولة عن الكثير من الأعمال الإجرامية المتعلقة بالقتل والخطف، وتعفيش البيوت المهجورة. في سوريا لا يشمل العسف والوحشية ارتكابات الطرف المعنيّ ضد عدوه الآخر، بل يتعداه إلى داخل معسكره وجمهوره … تلك سمة من سمات الحرب السورية. الكثير من الاغتيالات والخطف والاعتقال جرت فيما بين القوى المعارضة للنظام، ووصلت حدأ لايوصف من الوحشية والتنكيل. الممارسات والآليات نفسها جرت في معسكر النظام الإجتماعي أو ما اصطلح على تسميته بالموالين. سواء تعلق الأمر بمآرب كيدية، وربما لأسباب طائفية ، ولكن على الأغلب لأسباب ابتزازية لها علاقة بتحصيل المال، أو التنازل عن عقار أو أرض، أو لإجبار المخطوفين على لصق تهمة الإرهاب والإنتماء لداعش أو لطرف من عديد الفصائل الجهادية السلفية، بغرض ما يساهم في رفع مكانة هذه الميليشيا أو تلك في موازين النظام الإعتبارية. هذا ماترويه لنا الكثير من القصص عن عميات خطف بغرض الوصول إلى بث الخوف والرعب حتى في صفوف الموالين وإكراههم على التمثيل بصيغة : قولوا أنكم من داعش … وسط ذهول المخطوفين والمخطوفات كما جرى مع مجموعة من المواطنين – وكان من بينهم حزبيون ومن كتائب البعث ، حين استوقفهم حاجز لإحدى مجموعات الشبيحة قرب مدينة مصياف، طالباً منهم كونهم قادمون من الرقة أيام حكم داعش لها أن يعترفوا أنهم من داعش وقد لاقى هذا الطلب رفضا ًجماعياً استوجب إنزال كل الركاب وإنزال العقاب الجهنمي عليهم والتنكيل بهم.
من تجربتي الشخصية:
في وسط عائلتي ثلاثة مفقودين، وفي دائرة وسطي الاجتماعي والسياسي حوالي عشرة أشخاص بين رجل وامرأة. فيما يتعلق بعائلتي: عاد أحد المختطفين بعد غيابه عن أهله سنة، وتعلق الأمر بابتزازه مالياً من قبل فصيل إسلامي، لكنه عاد شخصاً مضطرب الشخصية، وغير ومتوازن ويعاني من وضع عصبي ونفسي سيء. الثاني: فُقِدَ أثره إثر كمين على طريق حماة- حمص وهو “شبيح” وواشٍ لكثير من النشطاء والثوريين في منطقته. قبض عليه كون اسمه في قوائم فصيل معارض وهو ما اعتبر صيد ثمين. وبعد عدة اتصالات اختفى أثره ويرجح أن يكون قد صُفيَّ بسبب سجله الإجرامي.
أما الثالث وكان يخدم في قطعة عسكرية واختفى أثره وإنكار وصوله إلى قطعته علماً أنه سبق أن اتصل بوالدته، وأعلمها بوصوله إلى القطعة، ويبقى سبب اختفاءه في إطار التخمينات والتكهنات، وكما هو دوماً في الحروب تبقى الحقيقة هي الضحية الكبرى.
في شهر ايلول من سنة 2012 تم اختطاف الدكتور عبد العزيز الخير والشابين ماهر طحان وإياس عياش إثر عودتهما من مطار دمشق الدولي، بعد جولة سياسية خارجية للدكتور الخير وزميله عياش. إختفى أثر الثلاثة. مع إصرار السلطات على الإنكار بمسؤولية خطفهم، واعتقالهم فضلا عن تحديد مصيرهم، ورمي مسؤولية اختفاءهم على “جماعات إرهابية” علماً أن منطقة اختفائهم كانت تقع ضمن مربعات السلطة الأمنية في حينها.
الأمر ذاته فيما يتعلق بالأستاذ اليساري العلماني ومدرس اللغة الانكليزية، في مخيم اليرموك الأستاذ علي الشهابي، في حالة علي من المؤكد أن فرع الأمن العسكري هو من اعتقله. لكن الفرع ينكر إنكاراً تاماً بوجوده ضمن ملاك موقوفيه ومعتقليه. لم يدخر الأهل طريقاً إلا وطرقوه دون جدوى.
اختطاف النشطاء الأربعة في مدينة دوما “رزان زيتونة- سميرة خليل – ناظم حمادة- وائل حمادة” من قبل فصيل جيش الاسلام يشكل وصمة عار في جبين هذا الفصيل السلفي المتشدد، وسط إنكاره بمعرفة مصائرهم. تضاربت التقديرات بخصوص مصيرهم خصوصاً بعد سيطرة واستعادة النظام لـ دوما.
“ياسر” عسكري مجند من الساحل السوري، ومن عائلة معارضة تاريخيا للنظام الديكتاتوري أمضى العديد من أبنائها سنوات اعتقال طويلة. تم اختطافه على حاجز طيّار، جرى الكثير من الاتصالات مع الجهة الخاطفة لتحريره، وبتدخلات شخصيات من المعارضة الخارجية دون أن تسفر عن أي شيء: الخبل السياسي والدافع الطائفي وراء خطف العسكري، والإصرار على خطفه، ولم تشفع حالة هذا الشاب لإعادة النظر بقرار خطفه من قبل هذا الفصيل المعند.
ملف المفقودين في لبنان:
” إن كانوا أحياء بدنا ياهن، وان كانوا اموات بدنا عضامهن” –وداد حلواني
لم تنته الحرب في سوريا بعد … ولم يستفق الضمير الجمعي على ضرورة التوحد والتنسيق ولو بالحد الأدنى، لمعرفة مصائر ألاف الناس المفقودين، كما لو أنهم لايزالون مشغولين بلملمة جراحهم المؤقتة، أو في البحث الحي والميداني عن فقيد طري العود إثر قصف مدفعي، أوطيران. وبقدر ما تفتقد في سوريا اليوم الهيئات التي تعنى بشؤون المفقودين، استطاع أهالي المفقودين في لبنان الانتظام في اطار موحد تجمعهم مصيبة الفقد والأمل في عودة أحبائهم وأبنائهم، ولأن الملف مديد في الزمن ويمتد الى العام 1975 فإن المنتظرين بدأوا يفقدون الأمل بعودتهم سنة خلف سنة، ويزداد تشاؤمهم بعد تخلي الدولة عن تبني ملف المفقودين ولايزال الصراع بين أهالي المفقودين والدولة وسلطتها التنفيذية والتشريعية قائما بضرورة تحديد مصير أبنائهم ويخيم انتظار ثقيل ومقيد بقوانين وإجراءات بيروقراطية يلفحها روح اللامبالاة وضعف الإهتمام، ومع ذلك لايزال الأهالي يتمسكون بالأمل، ويعولون على إقرار مشروع قانون “إنشاء الهيئة الوطنية للكشف عن مصير المفقودين” في أول اجتماع للهيئة العامة لمجلس النواب اللبناني، ويتضمن في حال إقرار القانون جمع العينات البيولوجية من أهالي المفقودين.
ومشروع القانون هذا كما يقول غسان النائب غسان مخيبر في معرض تقرير صدر في صحيفة الأخبار اللبنانية، ليس مثالياُ، لكنه يكرس على الأقل حق الأهالي بمعرفة مصير مفقوديهم، لايريدون إلقاء اللوم والمسؤولية على الضالعين في هذا الغياب،ومن فعل ذلك بذويهم، ولاتعليق المشانق لهم، فقط “نعرف وينن” كما تقول السيدة وداد حلواني، “فإن كانوا أحياء بدنا ياهن، وإن كانوا أمواتاً بدنا عضامهن” وإلا “ما فيكن تقولولنا بطلوا انطرو”.
خاص “شبكة المرأة السورية”