منتهى شريف
في مهبِّ الرِّيحِ
يَركضُ الأطفالُ حاملينَ طائراتِهم الورقيَّة الملوَّنَة، فيحرِّكونَ بأصابِعِهِم الَّصغيرةَ وخيطانِهم لوحةَ السَّماء، ويعيُدونَ رسمها وتشكيلَها بِطريقَتِهم، مناورين ببراءتهم الشَّمسَ تارة ًوالغيمَ تارةً أخرى.
لازالت لهدايا العيد قُدسية عندَ أغلبِ النَّاسِ هُنا، وَرَغم أنَّها باتت أَصغَر حَجما ًوأغلى ثمناً، لكن استمرار وجودِها رغمَ الحربِ وفقرِ الحرب هو بِمثابةِ دعوةٍ للاحتفال بالفرح وإعلان للوجود والاستمرار .
بدأت أقدامهم تتسارع مسابقة الريح، وتنحدر من أعلى التَّلة الكبيرة باتجاه السهول ِالمزروعة بالعدس الحوراني الأحمر.
للعدس حكاية مع أهاليهم لازلت عالقة بذاكرتهم، فهو ممزوج بعرق الجباه وأغنيات وأهازيج خاصة لا يمكن نسيانها من لحظة القيام بنثره هناك، وحتى يحينُ حَصاده، فيتبارى النَّاس بتلك الأغنيات الشعبية أثناء جنيه ِمحولينَ العملَ المتعبِ لمتعةٍ من نوعٍ آخر .
يخلع الأطفالُ ضاحكينَ أحذيتَهم احتراما ًلأهاليهم، متناسيين الشوك والزغب المتناثر بينها ويتابعون لعبةَ التحدي معَ الرِّيح …
هذه الأرضُ الممتدةِ بين الَّسهلِ والجبلِ لها قصةُ عشقٍ عتيق بين مكانينِ تجاورا منذُ أوَّلِ التَّكوين، تشاركا بالسَّماءِ والأرضِ والمَطرِ وبمساحاتٍ منَ الحنطةِ والعدسِ والخيرِ المُشترَك. اعتادَ النَّاسُ على جنيِّ تلكَ المَحاصيلِ في أوَّلِ الَّصِّيفِ، ولم تنجح الحربُ الُمشتعلة منذ سَبعِ سنوات ِبتفرقتهم.
هنا تضيع ُالجُغرافيا وتَصيرُ الأرضَ أمًّا للجميع.
هاهي خيوطُ طائراتهِم َّالصَّغيرةِ تَرتفعُ للأعلى، وتتلاقى أجنحة الطائراتِ فيزدادُ الحماسُ رسم سامح على طائرته وجهاً مختلفاً، فهو المعروف بإتقانه فن الرسم.
وقال بصوت عال: “عليّ وطيري فوق”، بعد أن وَشوَشها رِسالتَه للَّسماء.
عَلت الطَّائراتُ وَعيونُ الأطفالِ تَرنو للبعيد.
- طائرتي هي الأقوى، قال أمجد
ردَّ الأطفال : طائرتُك تَرتَجف
كل الطائرات فجأةً بدأت ُترتجفُ وخيوطِها بدأت تتَمايلُ مُترنِّحةً.
السَّماءُ تلوثَّت بِدُخانٍ كَثيفٍ، وَغطَّى صوتُ محركٍّ قويٍّ على صوتِ الأطفالِ. أزيزٌ مُخيفٍ وَدخانٍ أسود جَعلَ الطَّائراتِ وقُلوبِ الأطفالِ تَهبِطُ،
فتشابَكَت الخيوطُ مصطدمة ًبالأرضِ.
الطائرةُ الكبيرةُ تحومُ فوقَهم كطيرٍ كاسرٍ يودُّ اصطيادهم.
ركضوا لقَريتِهم كالعصافيرِ الفزعَةِ فأتاهُم صَوت ُالعمُّ أبو جواد من أعلى التَّلة : “تفرقوا يا أولاد”، لكن الأطفال لايحبُّون الركض فرادى!
كلُّ واحدٍ مِنهم كانَ يَرى الطَّائرةَ فَوقَ رأسهِ وحده،ُ وصارت فجأةً السَّماءُ كثُقبٍ أسود، وتقلَّصتِ الأرض.
كانَ صوتُ الرُّعبِ يَجتاحُ الصَّمتَ و يعَلو أكثر :”هيا … ليهرب الجميع “.
لم تَكُن للقريةِ أسوارٌ ولا حُدود، لكنها فجأةً أَصبَحَت َّمسوَّرةً بالخوف ِ
منذ سنوات قالها لهم ذاكَ الغريب :
_أغلقوا أَسوارَ قَريَتِكُم، فالموت قادم!
لكنه رغم ما أثاره وقتَها من تساؤلات، لم ينجح بعزلِ القريةِ عما حولها، فهي كباقي القرى الحدودية، تصنعُ بتفرُدها حكايةً مختلفة لبشر عاشوا بتنوعهم وتحابوا وباختلاف طوائفهم حياة مُعتَّقةً بالإنسِجام والمحبة.
كانت الكنيسة والمسجد وكل مقامات الاولياء الصالحين بجانب بعضها ولم ينجح الخوف بتفرقتهم.
ورغم الإغراءات وبعض المخاوف الدخيلة، بقي الناس في هذا المكان بعيدين عن كل ما يجري، ولعل لعزلتها وبعدها عن المدينة دور كبير بالحفاظ على ذلك التفرُّد وعدمِ وصول ِالأخبارِ لهُم، جعلتهم بمنأى عن الخوف.
وحده ُذاكَ الغريب بِلبادِتِه الصُّوفية وحذائِه الأسود المُدبب ولهجتهِ الغريبةَ من جعلَ بَعضَ الناَّس يومَها يفكرون بالرَّحيل ِ، لكنَّ فقرهم وتعلُّقِهِم بأرضِهم أبقاهُم قاب قوسين أو أدنى من الحرب.
الكلُّ كانَ خائفاً فَصوتُ الهديرِ هَذهِ المرَّةِ كان أقوى من كلِّ مرَّة .
سامح كان أول الواصلين للقرية وما إن اكتشف مايجري حتى أسرع لينادي رفاقه، لكن لا وقت للعودة الآن فأهل القرية برمَّتهم يرحلون بالاِتجاه المعاكس!
_أين تذهب ياولد؟
قالها أبو جواد زاجراً، لكنَّ سامح أومأ لأمه ولبقية الأمهات أنَّه ُيستطيعُ الركضَ سريعاً للحاق بهم في الشاحنة الأخيرة.
هي ساعات ولم يبق أحد هناك،البيوت الطينية البسيطة تركت أبوابها مفتوحةً، والشوارع فارغةً مِن النَّاس. وما إن ابتعدت الشاحنات حتى اشتعلت حقول العدس والحنطة وأحرقت معها حلم سامح برؤية رفاقه مجدداً.
وحد ه بقي محاصراً هناك بين هدير المحركات والنار المتقدة. اختبأ مخنوقاً بدموعه خلف الحائط يراقب تلك المعدات الغريبة التي وصلت للتو. كانت معدات غريبة لم يرها قبل اليوم، هي ليست للقتال ولا للدفاع عن القرية. كانت تشبه المثقب، تغرز بالأرض تحفر بسرعة غريبة
كاد يصرخ غير مصدق عندما رآهم في ساحة القرية الأثرية، التي حدثه جده يوما أن عمرها أكبر من عمره بكثير وأنَّها شاهدةً على أكثرِ الحضاراتِ وأهمها.
لكن أولئك الرجال استباحوا حرمةَ المكانِ وحطموها، وبلحظة حولوها لكومة من الحجارة.
كان يود أن يصرخ متسائلاً: ” لماذا ؟”
لكن ذلك الغريب بلبادته وحذائه المدبب أشار لهم أن يكملوا الهدم والحفر.
عند الصباح كان لازال متجمدا هناك يراقبهم، وهم يهمون بالرحيل حاملينَ كنوزَ لم ترها عينهُ يوماً !
وما إن ابتعدوا حتى صرخ بأعلى صوته منادياً السماء.
سمع صوت هسهسة من بعيد، فركض ليختبئ قائلا نفسه :
_لقد انتهى أمري
ما هي إلا لحظات و لاح له ذيل طائرته، مع رفاقه الذين عادوا يملأ صدورهم الدخان والخوف. كانت الفرحة أكبر من أن يعبر عنها بلقياهم. رغم غصته أخذ الطائرة الورقية بسرعة وبدأ يرسم عليها بالفحم المحروق وجوه أولئك الغرباء قائلا لرفاقه: “في يومٍ ما، سنحاسبهم ونستعيد كنوزنا “.
خاص “شبكة المرأة السورية”