Search
Close this search box.

تأملات في ديموغرافيا الكارثة السورية

تأملات في ديموغرافيا الكارثة السورية

غالية الريش

غالبا ما يكتسي مفهوم الديموغرافيا طابعا علميا يعنى بالأبحاث التي تتعلق بعدد السكان والآليات التي تحدده، كمعدل الخصوبة والزواج، والهجرة والوفيات والتبدلات التي تطرأ على الظواهر المرتبطة بعدد السكان، فضلاً عن ربطها بالمواقع الاجتماعية والاقتصادية والنظام الثقافي – القيمي للمجتمع، لكن غالبا ما تعوم به المقاصد رغم ذريعة ” البحث الأكاديمي” ليصيرموضوعا خصبا، في توظيف معطياته، حسب الغاية التي يرتأيها كل طرف سياسي واجتماعي، وبمعطيات تتزايد أو تتناقص، بالمقاييس الكمية، أو وفقا لطبيعة المقاربة حين التصدي لمعالجة الوضع السكاني، بالمقاييس النوعية، أوربطاً بأهداف مستقبلية تماما كما يجري في السياق السوري عبر ربط الموضوع الديموغرافي في خطط إعادة الإعمار وماله وثيق الصلة بالموارد البشرية. لاتعدو هذه الدراسة أن تكون سوى تأملات في دلالة المفهوم وبنية مقاربته الموضوعية في التصدي للمسألة السورية في كل فصولها الدامية، ويضيق المجال لتحقيق بحث رقمي دقيق الآن ، مع التنويه إلى أن ثمة مصادر موثوقة يمكن العمل عليها لدحض مايورده النظام من أرقام وما يصرح به النظام عن أعداد اللاجئين، أو الفارين من أتون الحرب

في مواجهة الشعار الذي رفعته الشعوب العربية في وجه أنظمتها : ” الشعب يريد اسقاط النظام ” كان شعار الثورة المضادة، ومن وراءها “الأنظمة تريد إسقاط المجتمعات” عن طريق تحطيم مقومات وجودها ووحدتها الاجتماعية وتشظيها، في سياق حرب مكشوفة لم تهدأ أوارها بعد، مستهدفة تدمير النوى الرئيس  للمجتمع وقواعد استقراره ويعرف الجميع أنه مامن حرب خيضت إلا وترتب على مافيها من نتائج وخيمة تغيرات نوعية في النسيج الاجتماعي المستقر، وفي انزياحات سكانية تتضمن انتقالات كبيرة عن المواطن الأصلية إلى منافي بعيدة تتوخى الاستقرار البديل، أو أماكن نزوح اضطرارية قريبة يقصدونها آملاً في عودات قريبة إلى تلك الأماكن الأصلية، فكيف الحال مع الحرب السورية المديدة التي دخلت سنتها السابعة دون أفق لنهاية النفق المظلم.

وما من مآلات سيئة تحققت بجماعها كما تحققت في سورية، ولعموم سكانها بحيث أن الجماعة أو الفرد قضى قبل الثورة وأثناءها ومابعدها حيوات مريرة لكن ماشهدته السنوات السبع العجاف كان مهولاً ورهيباً خاصة في ظل عمليات الاقتلاع القسري عن مواطن الناس القسرية ومايترتب على ذلك من منعكسات على مصائر العيش، والعمل والسكن، والطبابة والمدرسة.

أكاذيب وديماغوجيا الاحصاء السكاني

مستهيناً بالعقول، كشأنهِ  دوماً، كان النظام يحرص  منذ الأيام الأولى للثورة على التخفيف من وقع ما يجري واختزاله بمؤامرة كونية، كذلك الأمر فيما يتعلق بالتقديرات السكانية في غمار الحرب غير المنتهية سواء ما تعلق الأمر بالتهوين من النزوحات الضخمة في داخل سورية، أو عمليات الهجرة خارجها، وآخرها تأكيد رئيس الهيئة السورية لشؤون الأسرة محمد أكرم القش لصحيفة ” الوطن” السورية” أن التقديرات تشير أن عدد سكان سورية اليوم بلغ 28 مليون منهم 21 مليونً داخل البلاد حالياً، موضحاً أن نحو 7 ملايين خارج البلاد . وزيادة في ” دوزنة الأرقام” وجعلها تنطق بالحقيقة صرّح المصدر عينه في تناقض الجملة الواحدة أن عدد المهاجرين بشكل نظامي بلغ نحو 4.5 مليون سوري منهم 1.5 مليون هاجروا بأوراق نظامية !! ومتى ؟ في أثناء الأزمة مايعطي انطباعا أن خروج الناس تم بناء على رغبتها الطوعية متعاميا عما جرى من دمار مساكن وأحياء ومدن بأكملها.

وبالمقابل لاتنهض المزاعم حول تطهير عرقي وطائفي على حقائق قاطعة، وهي لاتعكس إلا مخاوف مشروعة، بفعل الاحتلالات التي تملأ الساحة السورية استيلاءً، وطرد السكان، دون أن نميل إلى التقليل من خطورة الممارسات الطائفية والاحتلالية، والتي ترمي إلى اجراء تغييرات في الجغرافية والبنية الديموغرافية والاجتماعية للنسيج الاجتماعي

هذه التقديرات على العموم لاتقوم على أسس علمية واحصائية موثوقة بكل تأكيد، خاصة في ظل بلد كان تتوزع فيه مابين 2012-2016، مئات المعارك بين الأطراف المتنازعة في المدن والأرياف والبلدات ومع سيطرة ما يسمى تنظيم الدولة على مدينتي الرقة ودير الزور جرت عملية انزياح سكاني غير مسبوق أدت الى تفريغ المدينتين واستبدالهما بأجانب وغرباء خارج النسيج الاجتماعي والتاريخي للمدينتين ووقوع قسم من مدينة دير الزور في حصار محكم من قبل إرهابيي تنظيم الدولة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل كانت عشرات البلدات والمدن الصغيرة في ظروف حصار محكم من قبل قوى النظام السوري وحلفائه، وهو بمثابة عقاب جماعي مضاعف للسكان الذين لم تتوفر الظروف لمغادرة البلد والذين وقعوا رهينة الجماعات المسلحة المعارضة بمحاكمها اللاشرعية وأمزجة قادتها التي تفتقد للمنطق والعقل والمسؤولية.

تجريف متزايد للسكان وراء كل تصعيد وحرب جديدة

أمام شبكة صراع القوى الدولية والاقليمية وجعل سورية ساحة حرب مفتوحة كان الوضع السكاني يهتز على ايقاع كل حرب تنشب وهذا مايمكن ملاحظته اليوم على صعيد ما يجري في محافظة ادلب التي اضطر تقدم قوات النظام وحلفائه بريا وجويا لهروب آلاف السكان من بيوتهم  في مدينة ادلب وقراها وبلداتها تماما كما الأمر في مدينة عفرين والقرى التابعة لها أمام تقدم الجيش التركي في عمق الأراضي السورية في حربه ضد الأكراد اليوم وهو ما يجر معه من تفريغ سكاني مديد لابد أن يترتب عليه بناء خرائط جغرافية وسكانية جديدة وفق استراتيجيات القوى الدولية الكبرى ورسم حدود الاشتباك أوفرض أمر واقع.

سورية على ماتبدو عليه اليوم من مشهد كارثي تتزايد فيه الحواضر المدمرة والأرياف المهجر أهلها والمئات من المخيمات المبعثرة على أطراف البلد، فضلا عن تجمعات النازحين واللاجئين خارج سورية والذين يعكسون بأصالة حقيقة المأساة السورية، تختصره بحق قضية تقرير مصير الشعب السوري التي تتولاها الأيادي الخشنة اليوم من سدنة المجتمع الدولي، بما هي قضية مواطنة ودولة قانون ومؤسسات، على النقيض من أي سياسة تقسيمية لأنها لن تتضمن إلا كل نهج وممارسة طائفية وعنصرية.

ماعدا ذلك، أي في اعتبار قضية تقرير مصير الشعب السوري قضية مواطنة وبنية دولة نظام وقانون ومؤسسات، لن تكون ثمة مقاربة جادة للواقع السكاني السوري في سياق اضطرابه ومتغيراته وغياب أي أفق لطي صفحة الحرب العبثية، ولتبقى الأرقام في  معرض أي  مقاربة سكانية- ديموغرافية موضع تنازع وتوظيف وتنابذ.

خاص “شبكة المرأة السورية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »