كطائر الفينيق المنبعث من رماده، تعود ذكرى الثورة السورية في شهر آذار من كل عام لتنفض عنها ركام القصف والموت، فتنبعث من ذاتها وكانها ثورة لا تموت، تعيد كتابة حكاية الطائر الأسطوري حين نزل من الجنة ليسكن أرض الفينيق، سوريا، فاحترق بعذابات أهلها. لكنه عاد في اليوم الثالث من احتراقه منبعثاً من رماده، فينيقاً خالداً لا يموت.
وفي قراءة واقعية لأسطورة الفينيق التي انطلقت من أرض شرق البحر المتوسط، لم يكن الطائر الأسطوري سوى شعب سوريا الذي لم يمت منذ آلاف السنين رغم تهافت الغزاة على قتله عبر العصور.
خمس سنوات من الثورة، لم تهدأ فيها عزيمة السوريين الطامحين بالحرية والكرامة، تارة يرضعون الأمل من حتمة انتصارهم، وتارة يحصون أعداءهم الذين تكاثروا عليهم، بدءاً من النظام الذي أوغل في سفك دمائهم، مروراً بتنظيم «داعش« الإرهابي الذي انقض على مدنهم المحررة، وصولاً إلى المحتل الإيراني الذي نشر ميليشيات القتل الطائفية وعاثت بالمدن السورية فساداً وإجراماً، وليس آخراً العدو الروسي الذي حمل إليهم أعتى أنواع الأسلحة الفتاكة ليكمل فصول القتل بحق شعب لا ذنب له سوى أنه طالب بحريته وكرامته.
عود على بدء «الشعب يريد إسقاط النظام»
استبق السوريون ذكرى الثورة بخروج عشرات التظاهرات السلمية، اجتاحت المدن والبلدات من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، معيدين بذلك للنظال السلمي زخم الحضور واستعادوا هم زمام المبادرة، بعودة شعارات الحرية والكرامة. مجددين العهد على متابعة مسيرة تحررهم من الظلم والاستبداد، حتى انتصار ثورتهم التي اندلعت في آذار 2011.
وفي الوقت الذي كان النظام يواصل خروقاته للهدنة بقصف المدن والبدات السورية، كانت عشرات التظاهرات تخرج من تحت الدمار وأنقاض المباني المهدمة في كل من حلب وريفها وإدلب وبلداتها وحمص وغوطة دمشق ودرعا، لتحمل رسالة مزدوجة، الأولى موجهة إلى الشعب السوري في الشتات وفي المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، لتقول له: «الثورة لنا جميعاً«.
أما الرساله الثانية، فكانت موجه إلى القوى الدولية العاملة على إنقاذ الأسد بأي ثمن لتقول له: «ها نحن عدنا إلى التظاهرات التي دفعت بهذا النظام لقتلنا وشن حربه علينا، لكنه لم ينجح، وأنتم لن تنجحوا في إنقاذه«.
وفي هذا السياق، يؤكد الناشط الإعلامي عمر عرب من مدينة حلب، أن تظاهرات يوم الجمعة 3 آذار لن تكون سوى بداية عودة الحراك المدني والسلمي المطالب بالحرية والكرامة وحقوق السوريين من كل الطوائف«، مشيراً إلى أن جميع الهيئات المدنية والثورية في حلب استبقت ذكرى الثورة بحل جميع كياناتها المنية والتوحد في كيان واحد وتحت اسم واحد «ثوار حلب»، وواصفاً تلك الخطوة أنها بمثابة «الرد العقلاني للخروج من حالات التشرذم والفرقة التي أصابت الهئيات المدنية والثورية«.
وكشف عرب أن «ثوار حلب» بدأوا يعملون على جمع التبرعات المادية والعينية لتأمين مستلزمات احتفالاتهم بذكرى الثورة، حيث يجري الاعداد والتحضير لمجموعة من الاحتفالات الشعبية والتظاهرات التي ستعم الأحياء المحررة في المدينة وفي بدت وبلدات الريف، مؤكداً رفض تقاضي أي مساعدات من أي كيان سياسي أو عسكري حفاظاً على استقلال «ثوار حلب» ومنعاً لحدوث أي تبعية.
من جهته، يصف أحد ناشطي دمشق عودة التظاهرات السلمية أنها بمثابة عودة الأمل لجميع السوريين، بعد أن أتعبتهم الحرب وجعلتهم يشككون بحتمية سقوط الأسد منذ أن نجح النظام في سحب الثورة إلى ملعب العنف الذي يبرع فيه.
واعرب عن اعتقاده بأن عودة الحراك الثوري بأساليب المقاومة السلمية من شأنه أن يعيد شريحة واسعة من الشباب الثوري، إلى ساحة الصراع السلمي الذي يشكل مقتلا لهذا النظام، مضيفاً: «أعتقد أن النظام، ومع عودة التظاهرات السلمية أدرك أنه الخاسر من الهدنة، لذلك يحاول أن يعيد الحرب من خلال انتهاكاته للهدنة مسجلاً أكثر من 270 خرقاً حتى الآن«.
ويصف أحد الناشطين في درعا عودة التظاهرات السلمية واستباق ذكرى الثورة بأنها تنهي الخلاف والجدل العقيم حول التاريخ الحقيقي لاندلاع الثورة إن كان في 15 آذار أو 18 آذار يوم اندلاعها أمام المسجد العمري في مدينة درعا، مشيراً إلى أن «عودة الحراك السلمي في هذا الوقت بالتحديد هو بمثابة البوصلة التي ستقود إلى مستقبل سوريا الخالية من الاستبداد السياسي والديني«.
ويضيف: «أما تأكيد شعارات التظاهرات على إسقاط النظام ووحدة التراب السوري وشعبه، فهو بمثابة الرد السياسي على المشاريع الإقليمية التي يحيكها الروس والإيرانيون، بدءاً من مشاريع التهجير القسري تمهيداً لتحقيق تغيير ديموغرافي يؤمن للأسد حدود دويلته، مروراً بمشارويع التقسيم إرضاءً لطموحات بعض القوى الانفصالية، وصولاً إلى الضغوطات الدولية التي تمارس على المعارضة السورية بهدف الإبقاء على الأسد خلال فترة انتقالية، لا تؤمن للمعارضة سوى المشاركة الصورية بهدف إيهام العالم أن ثمة انتقال ديموقراطي يجري في سوريا تحت رعاية دولية.
التحضيرات في عواصم العالم
بدأ السوريون الذين اضطروا للخروج من بلادهم مكرهين بتحضير احتفالات ذكرى ثورتهم في عدد من عواصم العالم، في اسطنبول وباريس ولندن وبرلين وسواها، مطلقين الدعوات إلى التظاهر في يوم 15 آذار .
كما تتخذ احتفالات الثورة في مدن العالم وعواصمه شكل محاكاة شعوب تلك الدول للتعريف بقضية الشعب السوري وتشكيل الرأي العام الداعم للقضية السورية.
وأكد أحد اللاجئين في فرنسا أنه يتم العمل على تنظيم سلسلة من التظاهرات والاعتصامات بالإضافة لمجموعة من الندوات الثقافية والفعاليات التي ستجوب المدن الفرنسية، منها على سبيل المثال، الحملة المستمرة منذ عام 2013 تحت عنوان «سوريا وطن لا سجن»، تنظمها شبكة المرأة السورية لتقوم على التذكير بقضية المعتقلين من خلال توثيق التقارير الخاصة بهذا الشأن والعمل على نشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعبر كتيبات مطبوعة.
كما يرجح المصدر أن تتوج تلك الاحتفالات بتظاهرات كبرى، يشارك فيها مجموعات من المجتمع الفرنسي، ستجري في عدد من المدن الفرنسية يوم 15 آذار.
الدكتاتوريات الجديدة وتحديات الثورة
مع دخول الثورة السورية عامها الخامس، تحمل على عاتقها المزيد من التحديات والمهام الجديدة، كمتابعة نضالها ضد التطرف الديني والتنظيمات الإرهابية، على رأسها تنظيم «داعش« الذي استغل فرصة الفراغ الحاصل في المناطق المحررة فانقض عليها ليحارب صوت الحرية فيها. وكما فعل النظام أوغل ذلك التنظيم في قهر وقمع سكان كل من الرقة ودير الزور وريف حلب.
أما التحدي الجديد، فيتمثل في تصدي الثورة لمحاولات تقسيم سوريا تحت مسميات اللامركزية والفيدرالية التي بدأ النظام الروسي بالتسويق لها في خطابه الديبلوماسي، معتبراً أن سوريا لا يمكن أن يتحقق السلام فيها دون نظام فيدرالي. وهذا الأمر يروق للنظام كما يروق لبعض القوى الدينية المتطرفة، كما أنه يرضي غرور القوى ذات المطامع الانفصالية كحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي «pyd « الذي عمل منذ بداية الثورة على عقد صفقات مع النظام، تقضي بتأمين إدارته للمناطق ذات ألأغلبية الكردية تحت حجة التصدي لتنظيم داعش الإرهابي وتوجت تلك الصفقات الانفصالية مباركة ودعم روسي وأميركي.
بالتوازي مع ذلك بأتي الحديث عن الفيدرالية بعد زمن من تحقيق النظام لها على أرض الواقع حين حوّل معظم المناطق التي استولى عليها إلى كانتونات طائفية تولت القيادات الأمنية فيها مهام الأمن والإدارة وتصرفت كحاكم مطلق النفوذ. كما حدث في حمص ومدن وبلدات القلمون السوري.
وفي هذا السياق، يرى أحد الناشطين الكرد أن إدارة «pyd» كشفت عن وجهها الحقيقي المعادي للحرية، والمتناقض مع مسمى الديموقراطية الذي تحمله، بمنعها للتظاهرات السلمية، وإيغالها في قمع واعتقال كل صوت مخالف لها. معتبرا أن غياب التظاهرات عن الساحة الكردية جعل من الإدارة الذاتية لحزب «pyd» تنتهج نهج النظام وداعش وجبهة النصرة الذين منعوا هم أيضا التظاهرات في مناطقهم.
وفي آذار 2011، بدأ السوريون ثورتهم ضد نظام واجهم بشتى أنواع القتل والتنكيل، فاعتقل مئات الآلاف منهم وقتل ما يقارب 300 ألف مواطن، وهجّر ما يزيد عن 5 ملايين خارج الحدود بالإضافة لنزوح 7 ملايين داخل الحدود.
كل ذلك حدث لأنهم فكروا باعادة كتابة مستقبل بلدهم الحرة المحررة من نظام بات وجوده يتعارض الحياة والحلم في آن، فانطلقت من أمام المسجد الأموي في دمشق، في 15 آذار 2011، أولى التظاهرات الثورة، تحت عنوان يوم الغضب السوري، شارك فيها من كل الأطياف وطوائف الشعب السوري، لتجوب سوق الحميدية مطلقة أولى هتافاتها «الله سوريا حرية وبس»، أعقبها في اليوم التالي اعتصام ذوي المعتقلين السياسيين والمناصرين لقضيتهم أمام وزارة الداخلية بدمشق، رداً على انتهاكات محكمة أمن الدولة وأحكامها العرفية بحق النشطاء السياسيين والحقوقيين، واجهها النظام بالقمع واعتقال العشرات من أبناء وزوجات المعتقلين.
بداية ثانية حدثت في درعا بعد أيام في 18 آذار، حين خرج الأهالي نصرة لكرامتهم ورداً على اعتقال أبنائهم الذين كتبوا على جدران مدرستهم شعارات الربيع العربي. فكان رد النظام على تظاهرة الجامع العمري بالرصاص الحي، كاشفاً عن وجهه الحقيقي ونيته في قمع وقتل كل من يفكر بالثورة عليه.
يومها قدمت درعا أول شهيدين في الثورة، محمود الجوابرة وحسام عياش، فكانت نقطة اللاعودة، وانتشرت الاحتجاجات في المناطق كافة لتنادي بإسقاط النظام.
عن جريدة “المستقبل”