بشار عبود
هل تستوي المطالبة بتمكين المرأة على الصعيد السياسي في مجتمع لا يزال قسم كبير من أبنائه ينظر إليها على أنها دون الذكر في العديد من المواقع الحياتية وخصوصاً تلك التي تتصل بشؤون العامة؟ وهل نستطيع المطالبة بمساواة الجنسين في الميادين كافة، في الوقت الذي يتشبّع موروثنا الشعبي والديني على حد سواء بالنظر إلى المرأة على أنها عورة حتى في صوتها؟!.. فكيف الحال إذا ما تطرّفنا قليلاً في مطالبنا وحلمنا ـ مجرّد حلم ـ، بتفوق واضح لحضور المرأة في مجتمع ذكوري اعتادت حاملته الثقافية على تغييب نصف المجتمع، ليس باعتبار التغييب أزمة وجود، بقدر ما هو توصيف لحالة طبيعية مُعاشة منذ قرون داخل المجتمع!.
رغم أن قضية تحسين واقع المرأة وتمكينها من مراكز القرار بشكل حقيقي، أصبحت مطلباً سياسياً وديمقراطياً ومحور اهتمام ومجال بحث وتغيير بين السوريين، لا سيما بعد الدور الثوري والإنساني والتحفيزي الكبير الذي قامت به نساء سوريا خلال الأشهر الأولى من اندلاع ثورة الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، إلا أن القوى اللاعبة على الأرض السورية والراغبة ببقاء المجتمع السوري قاصراً أبديّاً، وبحاجة دائمة لمن يرعى أبناءه، اتفقت فيما بينها على إعادة المجتمع والمرأة إلى حضن الخوف وقوقعة العزلة.
من نافل القول إن نظام الأسد بقشرته العلمانية الهشّة، يقف على رأس تلك القوى البربرية، الذي تعمّد بذكاء وخبث، إخماد صوت الثورة السلمية، مستنداً على آلة رعب رهيبة وهمجيّة قلّ نظيرها بين طغاة العالم، فيما لم تتلكأ القوى الإسلامية المسلحة بدورها والتي تسيّدت مشهد الثورة بترتيب إقليمي ودولي خفيّ، في التصدي لمهمة القضاء على ما تبقى من حلم الثوار في المناطق المحررة!!، فتقاطعت المصالح القذرة بين الطرفين، وبدؤوا بتقطيع أوصال جذوة الثورة وإعادة تطويع الثائرين والثائرات بما يتناسب مع أهواء أمراء الحروب، مع فارق أنها ـ أي القوى الإسلامية ـ، استندت في هذه المهمّة إلى نص ديني مقدّس، لا يقبل إعادة تأويل أو تفسير إلا بما ينسجم مع العقلية الإرهابية لقادة الحروب، فكان أن عملت جميع الفرق المسلحة في سوريا والمدعومة من دول معروفة على وأد الثورة في مهدها وضياع بوصلتها الحقيقية، أملاً في حصرها وعدم تمدّدها خارج الحدود السورية!.
والمتابع للشأن السوري بشقّيه النظام والمعارضة، لا يحتاج إلى كثير من الجهد ليلاحظ أن المرأة هي الغائب الأكبر عن المشهد السياسي العام، ليس بسبب الحضور الطاغي للغة القتل والتدمير على حساب لغة الحوار والعقل فحسب، وإنما لأن ثقافتنا الذكورية، قائمة في أساسها على الفردية الواحدية والأنا المريضة في كل تفاصيلها.
فلا رأس النظام يعترف بالآخر إلا بوصفه حليفاً له أو عدواً يجب أن يُقتَلْ، ولا رؤوس المعارضة تريد أن تعترف بالآخرين إلا بوصفهم مبايعين لهم على (السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر)، أو بوصفهم كفاراً يجب تطهير بلاد الشام منهم.
لا شك أن مفهوم تمكين المرأة لا سيما على الصعيد السياسي، مع إجراءات الوصول إليه يعتبر مقياساً مهمّاً ومرتكزاً أساسياً لتحديد وضعها وحقوقها المستلبة وتالياً تقدمها وتسيّدها في المجتمع، ولا شك أن التّمكين السياسي يساعد المرأة على اتخاذها القرار الذي يضمن حصولها على حقوقها وتضييق الفجوة العميقة مع الرجل، لكن في ظل الأوضاع المأسوية التي تعيشها سوريا، حيث الأولوية الآن للسلاح الفاقد لكل عقل أو هدف، وفي ظل الشتات الذي يعيشه شعبنا على اختلاف ولاءاتهم، ونتيجة عدم حصانة أي عمل مدني على الأرض، فإن أي حديث عن تمكين سياسي للمرأة سيكون ضرباً من الخيال، لا سيما وأن شروط بناء التمكين والتأسيس عليه، غير متوفرة ولا تقف على أرض راسخة أو عقلية ديمقراطية منفتحة قادرة على قبول الآخر والتعامل معه واحترام اختلافه.
هذه الإشكاليات التي تعترض تمكين المرأة وتطوّرها وتقدّمها، تحتاج أول ما تحتاج إلى تغيير في منهجية التفكير، وتغيير في ثقافة الناس العامة ومرجعيتهم الفكرية، وفتح الحوار النقدي البناء مع الماضي وتفرّعاته الإيديولوجية، والبدء بإعادة الاعتبار للمرأة القادرة على مواجهة الحياة بمفردها، وتعزيز مفهوم حضورها كعامل مؤثر لا تقليدي في المجتمع ككل وبين الأبناء ومع الأزواج في الأسرة والأطفال في المدارس وفي مخيمات اللجوء، وأيضاً في المناطق التي يسيطر عليها النظام.
فالقضية الأولى لتمكين المرأة هي ثقافية بالدرجة الأولى وما يتزامن ذلك مع ضرورة تغيير في الوعي الجمعي تجاه المرأة، وهنا لا بد من تدخل الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، بحيث تدعم حضور المرأة وتعطيها المساحة الكافية للتعبير عنها، والدفع بأكبر عدد من الوجوه النسائية في الهياكل التنظيمية والهيئات السياسية لهذه المؤسسات والأحزاب، مع بناء برامج متكاملة تساعد المرأة على صقل مهاراتها الميدانية والفكرية وتعزز ثقتها بنفسها في المجتمع وبين الناس.
أعتقد أن هذه النافذة، هي التي ستفتح الطريق أمام مشاركة المرأة في صناعة القرار السياسي وإبراز حضورها في المجتمع.. وهي التي ستضمن لاحقاً وجود قوانين تؤكد على نيل المرأة حقوقها السياسية المشروعة، وهي التي ستضمن مساواتها مع الرجل في هذا الميدان، ومن هنا يمكننا القول إن قضية تمكين المرأة لا يمكن أن تكون محصورة بأفراد محددين من المجتمع أو بشريحة منه، وإنما هي مسؤولية وطنية مشتركة بين الجميع، ولا يمكن أن تتبلور في ظل عقلية ديكتاتورية دنيوية كانت أم دينية.
فإذا لم يمتكن المجتمع أولاً من امتلاك الجرأة ليكون حاملاً لهذه النقلة النوعية، عبر البدء بخطوات فاعلة لهذا التمكين، فإن حالة الإقصاء والتهميش ستستمر للمرأة وعندها لن نتمكن من تمكين لا المرأة ولا الرجل، لأن أساس المجتمع ليست المرأة وليس الرجل، وإنما الثقافة هي أساس المجتمع، فهي التي تحدد وهي التي تقود الجميع باتجاه مجتمع المعرفة والوعي والفكر الأفضل والمُستنير والمُحصّن.
اللوحة للفنان هنري ماتيس
خاص “شبكة المرأة السورية”