لميا نحاس
شعرت المنظمات المدنية الدولية بالاستياء عندما أعلنت قنوات إعلامية عن تجنيد أطفال مع كتائب الجيش الحر، ولا ننكر أنه أمر يرعب أي أم حريصة على أن لا يكون طفلها بمثل هذه الأجواء، وبهذا المكان. لذا هممت بتسليط الضوء على جوهر الموضوع، وان كان مظلماً، فلن أتجاهل ربيعا من الطفولة يذبل قبل اوانه. ذهبت الى مدينتي حلب حيث أعلم أن هناك أطفالاً فعلاً تعمل مع الثوار.
طفل كنت قد التقيته بريف حلب حريتان فى عام 2013 حيث كانت الغارات والبراميل لاترحم استغربت وجوده مع الثوار وخاطبته لما أنت هنا ماذا تفعل ؟؟! كان أول طفل التقيه بين العسكر وحيداً نشطاً لكنه غير مقدر لخطورة وجوده. أجابني بنبرة رجولية وبراءة طفولية: “أنا أعمل مع والدي ورفاقه أؤمن لهم ما يلزمهم”. لم انتظر أن يتم حديثه بل ناديت والده مستغربة ومستهجنة ما أرى، هل يعقل أن تترك ابنك معك في هذا المكان وهذه الظروف، أين والدته ؟ واخوته؟.! ضحك الأب قائلاً “إنه رجل كما أشقائه يريد أن يقتل بشار إن اقترب مني، هو يؤمن لنا الماء والطعام ويتسلل للشارع العام ليوصل لنا أخبار عناصر النظام، لم يعد لدي أطفال، أولادى كلهم معي، الشباب على الجبهات وهذا لايقبل أن يفارقنى وهو أمامك اقنعيه وخذيه بيدك لأمه واخواته”.
مشهد وكلمات قرعت بداخلي طبول الذعر من المجهول القادم وانا في صراع على قسوة ماكان وماسيكون، عدت مجلجة باليأس مكبلة بفجيعة ما رأت عيني وسمعت اذني، أحسست أنني ابتلع ذاك الركام الذي خلفته براميل الموت. كان الطريق هادئا لاسيارات، لا مارة، لاحركة الا الريح تضرب جدراناً مهدمة، تثير ما استطاعت من أتربة تزيد اختناقي.
رغم ذهولي من المشهد الذي تركت، قررت أن أثير الموضوع، طرحته أمام عدة منظمات، كانوا يستمعون دون إجابة. فهم في النهاية خشب مسندة إن لم تأتهم أوامر من الجهة الداعمة فلا حياة لهم. بدخول الثورة عامها الرابع ازداد أمر تجنيد الأطفال وانتشر. أصبح هناك أماكن خاصة لتدريب الأطفال على السلاح، لم يعد عمل الطفل بجانب والده ليؤمن له الماء، ولكن أصبح عنصر هام في العسكر، وقد تفوق أهميته وجود الكبار، فهو غير مدرك خطورة ما يحدث، ولكنه سعيد لأنه يتشبه بالكبار ويسند إليه مهام ذبح وقتل وتنكيل. لم تعد ترى حاجز يخلو من طفل سلاحه يوازيه طولاً، بالإضافة إلى الأطفال في الخطوط الامامية للقتال.
عدت الى حيث بدأت … مدينتى حريتان، أسأل عن الطفل الذي التقيت ليكون الخيط الذي اتابع به قصة أطفال قُتلت طفولتهم وسرق الغرباء والجهل براءتهم. سألت عنه فجعني خبر استشهاده واستشهاد والده، قالوا استولت داعش على المنطقة بحجة تحرير نبل والزهراء وقطع الامداد عنهم، وانضموا إليها فهي تدعم بالسلاح وتدرب الأطفال على فنون القتال، وقبل أن نكتشف خيانة داعش اسشهد والده ولحق هو به بعد أيام. أبى إلا أن يقاتل بالخطوط الامامية فاخترقت قذيفة جسده ومزقته. وقتلت داعش أحد أشقائه لأنه كافر سب الذات الالهية. ولم يبق من العائلة سوى شاب واحد ما زال يتنقل من مكان لآخر يحارب النظام وكتائب داعش، التى قتلت شقيقه وكانت سبباً بقتل صغيرهم.
سألتهم: “هل مازال بينكم أطفال؟”، ضحك أحدهم ضحكة كبيرة وأخرج من جيبه جواله وبدأ يقلب بلمسات سريعة سطحه وهو يردد: “أطفال؟ أي أطفال؟ اقتربي وشاهدي … هذا شهيد حاجز بابيص … انظرى كان بطلاً قتل أربعة أشخاص وهو مصاب، واكملوا عليه بالدوس على رقبته … انظري أثار أقدامهم على رقبته، لكنه بطل. انظري هذا استشهد فى جبهة ريتان … انظري … وانظري…”
لم أعد اسمع شيئاً من كلامه، الذي وقع في قلبي مثل غيمة لاتمطر أبداً، شعرت برغبة عارمة بالصراخ تعتريني، أصبحت أترنح كمن بدأ يفقد وعيه. فشعر الرجل بتهالكي، امسكني وصرخ بزملائه لتحضير شئ يعينني على التوازن. كانوا مثل أوراق خريفيةٍذابلة على طرقات بلدي. كنت اتمنى أن أرى ألعابهم، أرى وجوهاً متسخة والعرق يعتريها، وصوت صراخهم وضحكاتهم تملئ المكان. بعد ان تحررت المنطقة وهربت داعش، لم اكن اتوقع ان ارى صور زهور ذابلة، يتباهى بها شباب جهلوا الحياة الا من القتل والاستشهاد. لكن ما أعاد إلي توازني كلمات قالها زميله، الذى اسعفنى بكأس من الشاي: “لما أنت حزينة؟ هؤلاء شهداء سيشفعون لسبعين من أهلهم، أنا لو عندى أولاد ماكنت تركتهم يهربون خارج سورية ليشحدوا فى شوارع الغربة ويُذلون هذه بلدنا إما أن نعيش بكرامة أو نستشهد نحن وأبنائنا. كل من عنده أبناء هم معه، وقليل من ترك زوجته واولاده فى خيام النازحين أو بلاد اللجوء … اذهبي هناك حيث الذل فى عيون أبنائنا والانكسار فى شبابنا … اذهبي واكتبي عنهم، سلطي الضوء على معاناتهم فهم أحوج لك منا … نحن عزمنا أن لانترك الجبهات الا للقبر أو العودة لبيوتنا منصورين.
اخترقت هذه الكلمات كل حواجز الغفلة واستقرت في قلبي، وذهبت إلى حيث المشهد الذي يثير الاسى، وسط غياب من يرعى هؤلاء الذين هربوا من بلادهم خوفاً من براميل الموت والدمار، ليواجهوا مأساة لاتقل قساوة عما رأته أعينهم فى بلادهم. تغص بل تكاد تختنق وأنت تسأل طفلاُ لايتجاوز السابعة من العمر لما أنت لست بالمدرسة؟؟!تخنقك كلماته وهو يجاوبك بضحكة بريئة “ليش هون في النا مدرسة؟”.
أجساد نحيفة متسخة ترتعش من شدة البرد، يجمعون الفتات عن أرصفة الشوارع ونفايات الابنية، وآخرون مساكين يستلقون على الارض نيام، فرشهم الارض ولحافهم الكرتون، ملتصقين ببعضهم علهم يجدون الدفء. طفولة اغتصبت حقوقها فى بلدها وزاد اغتصابها بلد اللجوء بعدم الالتفات اليهم لانهم الفئة المستضعفة التي تجهل حقوقها، طفولة تحترق في سعيها لجمع المال داخل الكراجات وعلى الارصفة فى الشوارع الراقية وفي الحدائق والاسواق. هذا ممسك بجوارب واخر بعلب بسكويت.
تراكضت الاسماء من حولي … احمد من حلب، كرم القاطرجي، واحمد من الميسر، وغسان من تل الزرازير وووو … أطفال لم ينضجوا بعد لاعقلياً ولاجسدياً مازالوا بطور البناء في الوقت الذي نشهد فيه صمت المنظمات الدولية رغم ما أصدرته من تشريعات بشان الطفل وعمالة الطفولة. أين الامم المتحدة واليونسكو مما هو واضح وضوح شمس تموز، مايعانيه هؤلاء الاطفال من اغتصاب لانسانيتهم وطفولتهم.
في كراجات إحدى مدن اللجوء التفوا حولي وأنا أحدث احدهم واصوره، طلبوا أن اصورهم، قال احدهم: “اعرضيها على التلفاز فقد يأتي ليحنو علي وياخذني لبيته … لا أحب هذا العمل، ولكن ليس لدى امي شاب غيري، ولم تستطع امي العيش بالمخيم لاجل أخواتي البنات وإيجار المنازل هنا مرتفع وكل شئ غال، آتي كل يوم من الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساء وأموت تعباً … كنت الاول فى صفي وكنت اتمنى ان اكون مدرس رياضيات … اسأليني ماشئت فانا كانوا ينادونني بالعبقري … ياليت يأتي من ياخذني واعود للمدرسة”.
قاطعه اخر ضاحكاً عليه مستهزء به: “ياخذونك؟ لا..لا لا انا لا أريد ان يأخذني أحد، انا مكيف كل يوم اربح ثلاثون ليرة ونحن ثلاثة نعمل هنا بالكراج، لا أريد اي شئ آخر … وهذا زميلنا ايضاً من حلب”، واستدار اليه منادياً له “انظر … انظر تريد ان تصورك وانت تكنس الكراج اضحك اضحك”، واقتربت منه لاحدثه الا انه رفض وخجل من عمله وقال: “لا أريد أن أظهر على التلفاز لا أريد أن يراني أحد أعمل بالزبالة، لا أحب هذا، لكنهم يعطونني راتباً أساعد به أهلي ولم اجد غيره”. أنزلت الكاميرا من يدي احتراماً لرغبته واستدرت عائدة والصمت مخيم على عقلي وانا أعيد ذاك الشريط الملئ بما لايوصف .
خاص “شبكة المرأة السورية”