مها الرفاعي
أرمور دوبن كانت بنتا يعتبرها أصحابها في المدرسة ولدا . وبعد أن كبرت أرمور صارت كاتبة تدعى ” جورج”، أعجب بها أقرانها وكأنها ” سيد ” أو “رجل عظيم”.وهذه البنت صارت فيما بعد هي جورج صاند أحد أفضل كاتبات فرنسا في القرن التاسع عشر وصاحبة أكثر من كتاب حاز أفضل المبيعات وقدرها كثير من النقاد بدرجة الموهبة العالية التي تحويها بين جوانحها . وقد أنكرت صاند الدور النسوي الموصوف بين كتاب عصرها فكانت تكتب كإنسان كامل بغض النظر عن النوع الفيزيولوجي لطبيعتها كامرأة . وأظهرت رسوم الكاريكاتير الهزلية شكلها في مرحلة النضج بمن يرتدي ملابس مجهولة الهوية ويدخن سيكارا ويؤدي ممارسات غير أخلاقية، ويبين هذا شكلا من الشخصية المعقدة الحيوية في صورة مرعبة ، وبهذا يحولون مواهبها الابداعية إلى شكل درامي .
حاولت جورج صاند مرارا في كل أعمالها وصف الخبرة النسوية بطريقة تعكس الندية الحقيقية والتوتر الابداعي .وكانت تدعي في حياتها باستمرار ذلك التميز لكنه ضمن مسؤوليات تاريخية كانت محفوظة للرجال من قبل، فصارت ضمن هذا المجال مجرد
( كاتب ) في مجال الابداع البشري .
سجلت حياتها حوادث مخيفة . كتبت عن سيرتها الذاتية، وتعتبر الآن من أفضل الكتب مبيعا، حيث أنها احتفظت فيها بمراسلاتها الغرامية مع العشاق والاقارب وزملائها الكتاب . وقالت الناقدة بلندا جاك في كتاب لها عن جورج صاند يدعى ” حياة امرأة في كتابة مسهبة “، أنها قد تكون عرفت كل شيء فعلته وأين ومع من طوال كل يوم في فترة شبابها . وعلى كاتب سيرتها إذن ألا يضيف شيئا لكن أن يختار وينتقي ويتحسس طريقه ضمن كم المعلومات الهائل الذي تتيحه للنقاد في كتبها .
لقد كتبت جاك هذه الصيغة بذكاء يثير الاعجاب، فهي تسرد حياتها الفوضوية ضمن شؤون غرامها وكتابتها وصداقاتها ومشاجراتها وأسفارها حيث يبدو أنها لم تكن تنام أبدا، وكل ذلك في عجالة شفافة ومشرقة وانفعالية على مدار الكتابة . تشرح بإسهاب التطور الفني والفكري لجورج صاند بشكل يثير الاعجاب، ليس لأنها تقدم صورة شخصية لفنان خاص أو امرأة شابة بل كذلك لأنها تقدم صورة دقيقة للجو الفكري في بواكير القرن التاسع عشر في فرنسا . كما أن الصورة التي تنشئها لجورج صاند كامرأة محطمة بوصفها للاحداث التي شملت طفولتها بالجروح لكنها وهبتها هوية مدافعة مترفعة، تدعي حقوقا لدرجة الاشباع النفسي، وكل ذلك في شكل جذاب .
يبدو أن جاك تناصر صاند بدرجة قليلة فهي تدعوها أحيانا بالسخيفة أو الانانية، وهناك فترات في حياتها لم تتحمل فيها ببساطة تلك التنشئة الايجابية، لكنها تبدو مقنعة أحيانا لأن الشخصية التي ترسمها أمامنا تنتمي لسياق ملموس : كانت جورج صاند في العشرينات من عمرها تدب في شوارع باريس وهي ترتدي البنطال ومعطفا وحذاء رجاليا، وكثيرا ما ننفعل مع لحظات هروبها من الزواج، رغم تمسكها بحبيبها . بدأت بعد ذلك موهبة صاند تتفجر بالكتابة، وكان شوبان أحد المعجبين بها وقد كتب بشكل عصبي إلى أحد أصدقائه ” ماذا سيحدث؟ لا أحس بأن الامور على مايرام ” .
كانت صاند تسهر طوال الليل في غرفة تتكدس فيها الاعشاب والفراشات والاحجار حتى أنها لا تجد مكانا للفراش، مجرد شبكة متأرجحة تنام عليها، وكانت تدمن رشف الماء المحلى بالسكر والكتابة، الكتابة، الكتابة دائما (بعد خمس سنوات من نشر كتابها الاول، صدرت طبعة مجمعة لاعمالها بلغت أربعة وعشرين مجلدا ). وحين بلغت صاند عمر الخمسين قيل أنها تعمل مثل ” القوزاقي” ضمن جميع الظروف لتكتب وتكتب .
تستحضر جاك كائنات صاند المختلفة وتصور أحاسيسها . وكانت تركز على نقاط محددة بشكل يوضح خيال صاند الكثيف وهويتها الابداعية العالية، لكن صاند التي تمنحنا إياها هي مجرد جزء من كل .
تختلف صاند التي تصفها جاك عن تلك الصورة الكاريكاتورية المرسومة في السابق، لكنها بالتأكيد تقدم منظرا لحياتها بشكل واضح . عندما قابلت ألفريد دي موسيه لأول مرة وكانت لها معه شؤون عاطفية حميمة، وكانت تتقلد خنجرا ذهبيا . توسع غرامها أيضا بالانضمام الى مجموعة أخرى كانت وظيفتها أن تتلقى صرعاتها بالتفصيل. حتى زوجها الذي نال وسام الشرف لشجاعته تحمل الكثير طوال فترة زواجه منها حتى نالت الاعتراف الادبي العام .
وحين كانت صغيرة وبختها جدتها بعنف لارتدائها الملابس التي كانت تتشبه فيها بالرجال، لذا نعتتها بكلمة ” الغبية “. إن صاند تجوب الشوارع دون أن تتحول إلى عاهرة، فقد كانت تذهب الى المسرح وصالونات الأدب التي كانت وقفا على الرجال فحسب، واستطاعت دائما أن تراقب وتفكر .
مات أبوها حين بلغت الرابعة من عمرها فعهدت بها أمها في إهمال إلى جدتها لكن جدتها قامت على تعليمها بشكل راق، وجعلت صاند وريثتها فمكنتها أن تعيش حياة مستقلة تستمع فيها بالحياة وهي شابة، لكن ربت فيها خوفا انفعاليا من الام التي كانت تشتاق لها دائما . اختارت صاند لذلك اسما رجاليا يمثل شخصية تختلف عن طبيعة جنسها ، وقد لعبت هذا الدور بشجاعة ، على غير شبيه بنساء أخريات ادعين المساواة لكنهن ظللن تحت الرعاية المغرية للرجال . كانت ترتدي البنطال طوال علاقاتها الغرامية في حياتها، وحتى عندما صارت أكبر سنا وأكثر ثراء ، وكانت تعمل كثيرا على كتبها. دعاها اصدقاؤها بلقب ” الجنتلمان ” ، وكانوا يأتون إلى منزلها ويعيشون في كنفها فتعولهم وتلعب دور الام معهم (تيمة ابن الام هي محور كثير من كتاباتها) . آخر عشاقها عاش معها خمسة عشرة عاما، وكان يناديها حتى النهاية بلقب مدام.
أجهش اثنان من أكبر الكتاب المعاصرين لها ( بلزاك وفلوبير) في البكاء المر وهما يسيران خلف جنازتها وكتبا عنها معتبرين أنها كاتب مواز لهما .
جورج صاند صورة مشرقة جريئة، مفعمة بهواء حار، وهي منارة كبيرة في تاريخ الادب الفرنسي .