خولة دنيا
صورة مكررة، عاشتها وتعيشها كثير من نساء بلادنا، فمن منّا لم يحصل معها ولو مرة على الأقل أن تجلس بجانب رجل في حافلة نقل، ثم يقوم بتوسيع جلسته بقصد أو بدون قصد محتلاً الجانب الأكبر من المقعد بينما تضطر هي لحشر نفسها بفخذين متلاصقين محاولة الابتعاد عن ملامسة جسده، وهي تبتلع شعوراً بالمهانة أو الارتباك والخجل الذي لا تجسر على النطق به في مجتمع سيوجه اتهامه لها مباشرة محملاً إياها تبعات كونها امرأة، فكيف أن يكون صوتها عال، كذلك في مطالبتها بحماية حرمة جسدها أو حيّز حريتها!
في كثير من الأحيان تكون هذه الحركات من شاب في مقتبل العمر يجدها فرصة لمتعة ملامسة جسد امرأة مختبراً رجولته الناشئة باستغلال الهامش الفوقي الذي يمنحه له المجتمع، بينما يكون وضع الفتاة المحرجة حتى من رفع صوتها أو المطالبة بحرية أكبر في الجلوس في المكان المخصص لها، هو ارتداء لصورة نمطية للفتاة تفترض فيها الخجل والصوت الواطيء وعدم المطالبة بحقوقها. تقطع الأنثى حبل مشيمتها بحقوق منقوصة، فينفصل جسدها عن جسد أمها المنقوصة الحقوق كذلك، والأدنى مرتبة اجتماعية ودينية من أبيها، لتشق طريقها بمجموعة من الأفكار النمطية عن المرأة تسمح بحصول المشهد المذكور أعلاه عندما تتحول لفتاة ناضجة. كما تسمح بانتهاك حقوقها بالتدريج، لتتحول في كثير من الأحيان إلى الحامي لتلك الانتهاكات بحكم الاعتياد واعتباره جزء من التقاليد والعادات وجزء من الاجتماع لا يجب الخروج عليه بأي حال من الأحوال. للاسف، سمعنا كثيراً من القصص حول انتهاك حقوق النساء من قبل النساء، وقيام نساء كثيرات بلعب دور الجلاد على نساء تجرأن على الخروج على المعتاد وما تمّ تنميطه للمرأة.
إن فقداننا لثقافة الديمقراطية، ومن ثم ثقافة المساواة السياسية هو القضية المحورية التي تواجه الحريات وحقوق الإنسان في بلداننا. ولعل الصورة النمطية التي رسمها الموروث الثقافي والديني في عقلية الأفراد، من خلال الفضاءات الاجتماعية المختلفة (المنزل، الشارع، المدرسة، العمل، الزواج .. الخ) هو ما كرّس التمييز وعدم المساواة بين المرأة والرجل في كل المجالات، وما خلق خطاباً مزدوجاً تجاه المرأة يكرس هذا التمييز. لقد أخفقت الثورات العربية، رغم النضالات الطويلة السابقة للنساء، في خلق دور مختلف للمرأة، بالعكس ما رأيناه هو نقص في الحقوق وتهميش سياسي وثقافي وعملي، لدور المرأة، تحت مسميات مختلفة، أو بكل بساطة لأن ساحة الفعل السياسي لا تتسع للرجال والنساء جميعاً، فيتم تهميش المرأة، أو في أحسن الأحوال إعطاءها أدواراً تكرّس الصورة النمطية حول المرأة، مثل مجالات عمل المرأة، أو الثقافة، أو الأطفال، مع عدم ثقة بأي دور يمكن أن تلعبه في المجال السياسي والتقاني والتواصل وتسلم قيادات … الخ.
ما تزال الأنظمة العربية، ومُقابِلاتها المعارضة العربية لأنظمة الاستبداد تقدم نفسها ذكورية ترفض المسّ بالثقافة الدينية أو الاجتماعية السائدة، وذلك في وقت يعتبر الكثيرون أنفسهم ثائرون، مع أن مفهوم الثورة هو مفهوم انقلابي أساساً على كل أنواع الاستبداد السائدة، إن في الحكم، أو في الدين، أو في الثقافة. ولعل قضية المرأة هي الفضيحة المستمرة لازداجية الخطابات التي يتم تقديمها من قبل السياسيين. من المحزن أن يتم تناول المعارضة السورية الممثلة للثورة السورية التي ماتزال تقدم تضحيات جسام وتلقي أعباءاً متزايدة على كاهل النساء السوريات العظيمات اللواتي يستمرين بنضالهن اليومي، ولا يتوقفن رغم حياتهن التي ترسمها وجبات الطعام، وقصف الطائرات، أو مخيمات اللجوء، دون أن يجدن من يتكلم باسمهن من بنات جنسهن، أو يتولى إسماع صوتهن في التشكيلات السياسية الممثلة لثورة ديمقراطية، رغم أن قضية المرأة والمساواة هي أساس الديمقراطية.
للأسف رغم تصاعد الدور الكبير للمرأة وكسرها للجمود الموروث حول المرأة والنمط السائد، من خلال مشاركتها بالثورة، ولعبها كل الأدوار التي تؤهلها لأن تكون في مواقع متقدمة، غير أن ما جرى لاحقاً كان لكسر إرادة النساء ورغبتهن في تأكيد مشاركتهن كما تضحياتهن المستمرة. تتم محاولات تنميط دور النساء وما قمن به لحد اليوم، من خلال إعلاء دور المرأة وتقديم صورة أشبه بالمقدسة حولها كمضحية بكل المجالات، وفي نفس الوقت منسحبة عن المشاركة السياسية أو الفاعلة لصالح الرجال. هذه الصورة التي تغذيها العقلية الذكورية والدينية، وثقافة سائدة يتم فرضها بالإكراه وفي أحيان كثيرة تكون الأدوات المنفذة نساء لاعتبارات دينية أو اجتماعية. فهل ستفلح النساء بتغيير كل ما كان؟ وخاصة أن درب المرأة طويل ولن يتوقف مع توقف الحرب، بل سيستمر بعدد النساء المعيلات الجديدات، والبيوت التي تعمرها نساء.
لابد أن يتعلم الجيل الجديد كل معاني المساواة والإنصاف، ولكن الدرس الأهم هو ما يجب أن تقدمه وتكرسه التشكيلات الممثلة للسوريين، ولا ينسو في غمرة خلافاتهم أن يضمو ولو صوتاً نسائياً واحداً لمجموعة الذكور الحمشين! على النساء أعباء جديدة لتأكيد دورهن، وهن قادرات على التغيير بالتأكيد، رغم أن الجميع يقول أنه ليس وقت حرية المرأة أو حقوق المرأة، هو وقت ماذا إذن؟ الموت المجاني للنساء تحت سكين ورصاص قضاة العصر الحجري الذين يستغلون ضعف النساء لتكريس انتصارهم على الذكور في صراع مستمر للسيطرة العسكرية؟ تستمر النساء في صراعهن، ضد التنميط وضد عدم المساواة، وضد سرقة حقوق تمثيلهن السياسي في تقرير مصير بلدهن. المرأة السورية تغيرت خلال الثورة كثيراً ولابد أن يتم عكس هذا التغير وبقوة عندما تتوقف الحرب، وهنّ قادرات على عكس تضحياتهن بمزيد من الحقوق والمساواة.
خاص “شبكة المرأة السورية”