خديجة بلوش*
اللوحة الأولى
يتفتق ذهنها عن طرق أكثر بشاعة مما عايشته سابقاً لتعاقب نفسها عما فعله بها الآخرون، ذراعاها المليئتان بندوب طولية أحدثتها في لحظات بؤس شنيعة، تعرف جميع أنواع المخدرات، وتتفنن في اختراع أشكال أخرى. لا شيء يهمها اللحظة أكثر من إحداث ألم يفوق ما تشعر به. نظرت لفخديها العاريتين وفتحت يدها التي تحمل شفرة للحلاقة، هوت على فخدها الأيمن بخفة محدثة جرحاً عميقاً سرعان ما فاض بالدم القاني ليلون جلدها الأسمر وليتسرب إلى الأرض التي تفترشها. أفرغت في جوفها خليطاً من الماء والكحول، أغمضت عينيها في شبه انتشاء من مفعول الكحول الحارق لجوفها ومن الألم الذي يئز به فخدها الغارق في الدماء.
تتذكر الآن أكثر من أي وقت مضى طفولتها التعيسة، البرد الذي كان يجمد أطرافها كلما ذهبت للمدرسة باكراً والفصل شتاء وجسدها النحيل لا يغطيه إلا ثوب رث متسخ وقدماها في صندل بلاستيكي. المطر كان يغسل جسدها المرهق والجوع يقطع أوصالها، ولم تكن تنجو من تعنيف الأستاذ ولا من سخرية التلاميذ، كأنها من اختار هذا الوضع وهذا الحرمان. لم يستمر الأمر طويلاً، فوالدها الذي يعتمد على زوجته وبناته في تدبير مصروف البيت وجد لها عملاً كخادمة في بيت مجموعة من العازيين، والصغيرة التي لا تدرك شيئا لم يكن يهمها أن تستبدل الفصل ببيت. أختها أسرت لها أنها ستأكل هناك ما لا تأكله في بيتهم وأنها لن تضطر لسماع سخرية أحد ولن تضطر لتحمل قسوة والدها.
تحسست فخذها بشيء من التردد، لزج دافئ، توقف تدفق الدم وذاكرتها تستمر في النزيف، ماض لا تطيقه وتسعى لنسيانه، لكنه يلتصق بها كجلدها الذي تملأه الندوب.
كأس أخرى وجرح آخر، نزيف هادئ بعد أن تعمدت أن تجرح نفسها جرحاً طفيفاً، ونفس من سيجارة محشوة بأشياء قيل لها أنها تأخذ لعوالم الفرح. لكن خيط الدخان أخذها للحظة التي انتهكت فيها براءتها على يد مشغلها، وعن ما تلى ذلك من بيع وشراء بينه وبين والدها الذي قبل بتزويجها منه كي لا يصل الأمر للقضاء، عن الأسابيع التي ذاقت فيها كل ألوان العذاب على يد مغتصبها باسم الزواج، عن والدته التي كانت تكيل لها الشتائم وتحرقها بسكين تضعه على النار إلى إن يتوهج. تلمست ما بين فخديها والندوب التي تأبى الإضمحلال.
تهمس بسخرية: “كلهم متشابهون، أبي، زوجي، أخي، كل رجل لامسني … كلهم حقيرون وكلهم يستحقون الموت”. تطلق ضحكة مجلجلة كأنها أدركت أنها من تموت منذ ولادتها وبجرعات زائدة دون جدوى.
قد تغفو وهي مبللة بكل تلك الدماء وقد يستيقظ صغيرها، الذي قبل أيام لاحقته بالشفرة وهي في إحدى حالاتها الرهيبة، كي تقتل فيه والده الذي اغتصبها ورماها بعد أن تاكد أنه لن يعاقب.
شعرت فجأة بثقل الماضي والحاضر معاً، إلى متى تستطيع الاستمرار بهذا الضياع والألم؟
الشفرة الحادة بين أناملها تحرقها، كأنما تمرر لها أمراً قاتلاً بالتخلص من كل شيء آلمها منذ أن وجدت. وقفت بترنح ومشت نحو الصغير…همست له بحنو لم تعهده في نفسها “سنكون بخير صغيري، سنكون بخير”.
الدماء التي وجدت طريقها لخارج الغرفة الصغيرة وحدها أنبأت الجيران بحدوث أمر رهيب.
تخلصت آمنة وصغيرها من بؤسهما … للأبد.
اللوحة الثانية
مازال اسمها الذي يوحي بفصل ما يربكها ومازالت ملامحها الطفولية تثير لعاب العابرين، وسنواتها العشرين تتمرغ على الارصفة…ما كانت حكايتها؟
إسمها ربيعة ولأن البلوغ راودها قبل قريناتها وعمرها لم يكد يبلغ الثانية عشر، زوجها الاهل لكهل ما. لم يستمر الزواج إلا اشهراً لتساق الى أروقة المحكمة طلبا للطلاق. اهتزت نفسيتها هي التي لم تستوعب بعد ما كان يحدث كل ليلة على يد زوجها الجلاد، لتفاجا بأسئلة القريب والبعيد. فاشلة …لقب سيلاحقها بعد ذلك لتنزوي، هي التي لم تعش من طفولتها الا النزر القليل. صارت تنتابها لحظات تعاقب فيها ذاتها، تنزع ثيابها لتكوي الجسد وتقص شعرها. الـجارة همست لامها “ابنتك مسكونة، خذيها للشيخ ليداويها، إنه أفضل من يخلص الاجساد من الشياطين والجن”.
كابوس آخر تدخل الصغيرة غماره، جلسات تعنيف وضرب والشيخ يهدئ الأم يخبرها أن شيطاناً سكن جسد الصغيرة،وأنها مسألة وقت ليطرده.
ذات جلسة بدأت اعراض النوبة تظهر مجدداً على الصغيرة. شقت ثيابها وبدأت في الصراخ، الجسد المنتفض أثار غرائز الشيخ وطرد الأم خارج الغرفة بدعوى أنه أخيراً سيطرد الشيطان من الجسد. خارجاً انتظرت الأم وصراخ ابنتها يملأ المكان، ليهدأ بعد وقت، ثم يختفي، ليخرج الشيخ منتصراً ويدعي أن ابنتها صارت بخير، وأن تأخذها للبيت وتواظب على اعطائها دواء معيناً دون انقطاع.
مرت أسابيع وربيعة لاتكاد تستيقظ إلا لتعود للنوم، وأمها تحكي عن كرامة الشيخ ومعجزته في شفاء ابنتها، لكن مع انتفاخ في البطن لم تكن لتعزوه إلا للمرض. لكن ذات ليلة حدث ما لم تتوقعه الأم، طفل شق طريقه للحياة من العدم، صراخ أجفل صمت المسكينة وأيقظها من حالة الموت الذي أدخلت اليه.
لأ أحد تجرأ على التساؤل، الطفلة وحدها استغربت كيف أن هذا الطفل كلما كبر يتعلق بها ويناديها ماما.
عادت نوبات التعري والصراخ تغزوها وما من أمل في الشفاء، ربيعة صارت تهرب من البيت وتطلق ساقيها للريح وهي تصرخ: “إنه شيطان، والطفل ابن الشيطان”.
اختفى الطفل كما اختفت ربيعة، والأم أصابها الذهول، ودخلت في دوامة الصمت.
*كاتبة من المغرب
اللوحات للتشكيلي السوري “غسان السباعي”
خاص “شبكة المرأة السورية”