إعداد: جمانة علي
أدت الأزمة السورية المتواصلة منذ قرابة أربع سنوات، وسط تدمير ممنهج للزرع والضرع، ومقتل واعتقال الآلاف من السوريين، لتشريد آلاف الأسر، التي هجرت بيوتها ووطنها، وتفرقت بهم السبل في جميع أرجاء المعمورة.
وتشير الإحصائيات لوجود أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري في المنطقة، يضاف إليهم قرابة ١٠٠ ألف لاجئ يتركون بيوتهم شهرياً. وقد بلغ عدد اللاجئين في لبنان، أكثر من ١,١ مليون شخص، أي بما يزيد عن ربع سكان هذا البلد، قبل بدء الحرب الأهلية السورية. ولهذه النتيجة، غدا لبنان من أشد المناطق اكتظاظاً باللاجئين في العالم، والذين هرب معظمهم من بيوتهم، وليس في حوزتهم سوى ثياباً حملوها على ظهورهم، وبطانيات قد تقيهم برد الشتاء، أو أشعة الشمس الحارقة في أشهر الصيف.
جيل ضائع
وبحسب صحيفة ذا اتلانتيك الأمريكية، يبقى الأطفال والشباب السوريين، والذين غالباً ما يتم وصفهم بعبارة” الجيل الضائع” هم الأكثر تأثراً بالحرب السورية، وذلك جراء ضياع فرصة إكمال تعليمهم، والذي غدا حلماً بعيد المنال. فإن المدارس العامة في الدول المجاورة، والتي لجأ إليها غالبية اللاجئين السوريين، هي بالأصل مكتظة بالطلاب، وتفتقر للإمكانيات والموارد اللازمة لاستقبال أبناء اللاجئين، وخاصة أن أعمار أكثر من نصفهم، تقل عن ١٨ عاماً. وتبعاً لتقرير صادر عن اليونيسيف، حرم أكثر من ثلثي الأطفال السوريين اللاجئين من الدراسة في مدارس عادية. كما أن عدداً كبيراً من الشباب والفتيات الذين التحقوا بالجامعات السورية، تخلفوا عن متابعة دراستهم بعدما غادروا البلاد، وما عادوا قادرين على تعويض ما فاتهم.
كل يوم في حال
وفي هذا السياق، يقول هاني، شاب سوري موهوب يقيم في وادي البقاع في لبنان:”كل يوم نحن في حال جديد. فإن الحياة هنا باتت أسهل من ذي قبل لأننا تأقلمنا مع الحياة خارج سوريا، لكنها أصعب لأننا لا نريد التعود على فراق الوطن والأصدقاء ومقاعد الدراسة، وفرص العمل”.
وفي وسط واحدة من أشد الكوارث الإنسانية وطأة في التاريخ المعاصر، وهي التي حولت شعباً إلى أرقام، نجد جيلاً سورياً ينتظر أن يحيا حياة طبيعية، ولو بصيص أمل للعودة إلى الوطن، لكي يحيا حياة إنسانية كريمة.
لكن بالمقابل يرفض أحد هؤلاء الشباب، وهو طالب في كلية الهندسة المعمارية في جامعة حلب، وصف” جيل ضائع”، ويقول” لسنا تائهين، ونعرف أين نوجد، ولكننا عاجزين عن العودة”.
إصابات وإعاقات
يقول مصطفى، شاب من مدينة حمص:”عندما اخترقت قذيفة بيتي، قبل عامين، بقيت لبضعة ساعات عاجزاً عن الحركة، وكأن الزمن قد توقف. وقد أدركت، حتى قبل أن أفتح عيني، أن الحياة لن تعود إلى ما كانت عليه”.
يقول، وهو يرمش بعينيه، مستذكراً كابوساً عايشه لساعات” لم أكن راغباً برؤية ما عرفت أنه جرى”.
وعندما فتح عينيه، رأي ما كان من المستحيل عدم رؤيته، فقد استلقى جسدا أمه وأخيه دون حراك، وقد غابت تقريباً ملامحهما، فيما نجا وأبيه، وأخيه الأصغر، من القصف.
وإذ سنحت للأسرة سويعات قليلة لإقامة مراسم دفن لائقة، هربوا إلى لبنان، وفيما كان مصطفى يدرس الهندسة في جامعة حلب، ويحلم بعمل لائق، يسعى اليوم لكسب عيشه من خلال العمل في شتى المهن. يقول: “اشتغلت بالطهي والتنظيف وعزفت الموسيقى، وبالتدريس، وبكل ما يخطر على البال، وأسعى لاستكمال دراستي الجامعية، ولكن معظم برامج الهندسة في الجامعات البنانية، فائقة التكلفة”.
حزن مقيم
عن والده، يقول مصطفى” ما زال أبي حزيناً، وهو بالكاد يستطيع النهوض من الفراش في الصباح”. وهكذا أصبح هذا الشاب، والذي ما زال في أوائل العشرينيات بمثابة أبٍ ثانٍ لأخيه الأصغر، بحيث يدفعه دفعاً لأداء واجبه المدرسي، وينهره إن هو أطال في مشاهدة برامج التلفزيون على شاشة صغيرة مستعملة تمكنوا من ابتياعها من جارٍ لبناني.
ومن أجل تمضية وقت فراغه فيما ينفع، وهو الشيء الوحيد الذي يملكه مصطفى، تطوع للعمل في مدرسة تديرها” جسور”، مؤسسة غير نفعية يمولها مغتربون سوريون لتعليم الطلاب السوريين المشردين. وهو يغني ويرقص مع الأطفال، والذين يتابعونه بابتسامات بريئة. وفي فترات الاستراحة، يعمل مصطفى على تطوير إنجليزيته عبر برنامج حمله على جهاز استطاع شراءه، بعد توفير ثمنه بمشقة، وهو يدعوه “صديقي المفضل”.
متعة القرب من الأطفال
كانت تمضية الوقت مع الأطفال كنوع من العلاج لمصطفى، متعرفاً من خلالهم على عالم بعيداً نوعا ما عن معاناته الصعبة الاحتمال. يقول: “هؤلاء هم أبناء شعبي”. ومن ثم يدخل غرفة مليئة بأطفال من اللاجئين السوريين، وقد تجمعوا في حلقة، وهم يضجون حيوية حتى قبل أن يمسك مطصفى بطبله.
وقال ممسكاً بيد طفل في الخامسة، فقد أباه في سوريا، في العام الماضي:”عندما أنظر في عيونهم، أرى ألمي، لكن أرى أيضاً بلدي”.
وميض قاتم
فيما تصفه” وميض قاتم” هربت بيان مع أسرتها من بيتهم في حلب، قبل عامين. وهي ما زالت تذكر ذلك الصباح الرمادي الضبابي وقت مغادرتهم. فقد أيقظهم أحد أبناء الجيران، عند الخامسة فجراً، ليبلغهم أنه تم التوصل إلى اتفاق هدنة في منطقتهم، وبأن هناك فرصة للهروب، بعد حصار دام أسابيع، ولم يكن لديهم سوى ما يسد الرمق. وهكذا سرعان ما حزموا حقائبهم، والتي ضمت ثياباً لبضعة أيام، وبعض الكتب، ونسخة قديمة من القرآن الكريم، تملكها الأسرة، وهربوا. وعند الخروج من حلب، استوقفهم جنود من الجيش السوري واحتجزوهم عند نقطة تفتيش، لمدة ساعتين، واستولوا على جميع حقائبهم.
مجرد كتب، مجرد طالبة
تبكي بيان، وهي تتذكر كيف أخذ الجنود كتبها المدرسية، وتقول:”كانوا مجرد كتب، وأنا مجرد طالبة”.
ولكنها تقول أن “التأقلم مع الحياة في لبنان بدا مستحيلاً”. فهي تشتكي وأختها روان من المضايقات من قبل المدرسين والطلاب اللبنانيين، وتقول، أن أحد زملائها يزعجها عبر ترديد اسم” بشار”، اسم الرئيس السوري. وأما بيت بيان الجديد في شمال لبنان، فهو عبارة عن شقة صغيرة تتكون من غرفتي نوم، تعج بالغبار والأوساخ، لا يرى سوى لمحة من أشعة الشمس عبر النافذة الوحيدة في الشقة. أما والدها الذي كان خياطاً مشهوراً بحلب، فهو بالكاد قادر على تأمين أجرة الشقة، والتي تعادل ٢٠٠ دولار شهرياً.
تقول والدة روان، وهي ترضع ابنها الصغير”نحن معلقين بخيط”، ومن ثم وقبل أن تتمكن من وضع الصغير في سريره من أجل قيلولته، غرقت الشقة في العتمة، لأنهم لم يستطيعوا تسديد فاتورة الكهرباء. وليست هذه هي المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة. وكما اعتادت أن تتصرف، على مدار أشهر، تهرع روان خارج الشقة لرفع القفل الذي وضعته شركة الكهرباء لمنعهم من وصل التيار. وقد أفلح هذا التكتيك فيما سبق، لكن القفل هذه المرة كان محكماً.
عزم على مواصلة الحياة
وكانت منال وأسرتها قد هربوا من منزلهم في أحد ضواحي دمشق، قبل عامين، بعدما سجن قريبين لهما وعذبوا بوحشية. وقد خططت للالتحاق بالجامعة، ودراسة إدارة الأعمال، ولكن كسواها من آلاف الشباب السوريين، تسعى جاهدة، دون جدوى، لتأمين كلفة الدراسة في الجامعة اللبنانية. وهي حالياً تساعد أباها في إدارة بقالية صغيرة في سوق محلي، ويعيشون على الكفاف. ولكن منال عازمة على تخطي الصعاب وظروف اللجوء الصعبة، وتحيا على أمل استكمال دراستها، وتقول” آمل أن أكون جسراً من الآمال فوق بحر من اليأس”.
خاص “شبكة المرأة السورية”