Search
Close this search box.

ألم عابر للنوافذ  – شبكة المرأة السورية

ألم عابر للنوافذ  – شبكة المرأة السورية

ألم عابر للنوافذ 

كنت وعائلتي نقطنُ في مبنىً حجريٍ قديم، يضمُّ طوابق متعددةً، وبيوتاً كثيرةً، كان المبنى متماسكاً من الخارج؛ لكنَّه متصدّع من الداخل كقلوبِ قاطنيه، وذلك بسبب الزلزال المدمّر الذي ضرب المدينة منذ سنتين. على الأقلّ أنا من كنتُ أشعرُ بعدم الارتياح من شقتنا الواقعة في الدور الأخير، ذات الحيطان المتشققة، والماء الذي يتسرب من سقفها في الشتاء؛ وكان ذلك كافياً ليشعرني بالاستياء، والألم كلما نظرتُ إليه؛ خاصّةً أننا لا نملكُ رفاهيةَ إصلاح الشقّةِ، أو تغييرها بسبب ضيقِ ذات اليد، وارتفاع الإيجارات؛ إضافةً لعناء السوريين في تركيا في تغيير مناطق السكن، وتثبيت عناوينهم الجديدة. ورغم كلّ ضيقي لم أكن أعلم يوماً أنَّ هذا المبنى يضمُّ قلوبَ نساءٍ متخمةٍ بالغربة، والحزن، والألم أضعافَ ما أشعرُ به، ذلك الألمُ المقترنُ باختلاف ظروفهنّ كاختلاف البيئات التي انحدرنَ منها من موطنهنّ الأصلي سوريّة. لم أكن أعلمُ أنّ تلك التصدّعات التي أحدثتها كارثة طبيعيّة في المباني، وفي الجدران ستكشف لنا عن تصدّعات روحيّة، واجتماعيّة متجذّرة في الذاكرة؛ لازالت تلاحقنا في كلِّ زمانٍ ومكانٍ. وكعادةٍ مسائيةٍ محبّبةٍ لدي، أحضرتها معي من سوريا ضمن مقتنيات قلبي، وحافظت عليها حتى بعد إقامتي في تركيا، ألا وهي جلوسي عند نافذة غرفتي المطلّة على حديقةٍ جميلةٍ تزهو بالعشب الأخضر، والأشجار الوارفة، وتتوزّع فيها مقاعدَ للجلوس على مرمى النظر بطريقةٍ هندسية متقنة، وألعاب للأطفال تضجُّ بأصواتهم وضحكاتهم. جلست ُذات مساء ٍ هادئ النسمات لأحتسي قهوتي الممزوجة بنكهة الهيل، ورائحة الذكريات؛ ولا أعرف سرّ حبي لتلك العادة؛ ربّما لأنَّ الظلمةَ تخفّفُ قليلاً من وضوحِ آثارِ الحزنِ في الملامح ، أو لأنّ القهوة تسيطر على ضجيجِ النفسِ المتعبةِ، لكنّ قهوتي يومها بدتْ لي غيرَ مألوفةٍ؛ حيث بدأت رويداً رويداً تمتزج بأصواتِ نحيبٍ، وعويلٍ ؛ كان صدى الصوت لشدّة حدّته يكاد يصطدم بالجدران، ويرتدّ على مسامعي ليخترقها بطريقةٍ استفزازيةٍ، بدأت الأصوات تتعالى، أطللت برأسي من النافذة حتى كاد رأسي أن يسقطَ من ثِقَلِ ما يحمل من فضول؛ لأكتشفَ أنَّ الأصوات صادرة من نافذة الدور الثالث في مبنانا، آه  كما توقّعت، إنّها من شقة جارتي، وصديقتي سوسن،  ولمعرفتي المسبقة بسوسن وحياتها  الشائكة، التي كانت تشبه كأساً مترعاً بالظلم خمّنت ما يجري، إنّه سيناريو العنف المتكرّر من أخوة سوسن للضغط عليها، وإجبارها على الزواج، ولكنّ المختلف في تلك الليلة أنَّ التعنيف قد اخترق النافذةَ، وشقوقَ الجدران لينتشر على الملأ، حتى بات على مسامع كلّ أهل المبنى، والمارين بالقرب منه.  ومّا أثار الاستغراب في نفسي!  لماذا لم تلجأ سوسن لي هذه المرة كما تفعل في كلّ المرّات السابقة، لتستمدَّ منّي بعض التماسك والارتياح؟! ربّما الساعة المتأخّرة هي من حالت دون ذلك؛ ولربما أنَّ الألم قد تجاوز حدَّ التحمّل، فلم تعد بضع كلماتٍ كافية لتخفّف عنه وطأة الوجع الممتدّ بعيداً في زاويا الروح المتخمة به. سوسن في السابعةِ والعشرين من العمر، سورية الأصل، تزوّجت بطريقة تقليديّة في سنِّ السادسة عشرة من عمرها في بلدتها التي مازالت تحافظ على عاداتها، وتقاليدها. لم تمضِ شهورٌ قليلةٌ حتى تحوّل زواجها لجحيم، لم يخبرها أحد أنّ زوجها طارق يعاني من إرثٍ قديمٍ يحمله معه كصكٍّ متوارثٍ من أهله، وهو تعنيف زوجته، وأخواته، وتعود أسبابه لأمّه فاطمة (المطلّقة). لقد كانت فاطمة تحبُّ زوجها كثيراً؛ وبسبب ضيق الأحوال اضطرّته الظروف للسفر، والعمل في إحدى دول الخليج، ومن ثم فوجئت بخبر زواجه من امرأة أخرى هناك، وبأنّه نسيها وأطفالهما وتركهم يعانون مصيرهم اللامتناهي في قسوته، وهذا ما ولّد عندها صدمةً نفسيةً شديدةً دفعت ثمنها باهظاً فيما بعد هي وأولادها. كان طارق يعنّف سوسن لفظيّاً وجسديّاً لأيِّ سببٍ تافهٍ، ثمّ يحبسها حتى تختفي آثار الضرب، ولم تكن  تجرؤ على إخبار أهلها بما يحدث، لأنّه يبدو أمامهم كالحَمَلِ الوديع؛ حتى لو اشتكت فلن يصّدقوها، أو بالأصحّ ليس لديهم أدنى رغبة في تصديقها؛ كما كانت حماتها تهدّدها كونها تسكنُ معها في نفس الشقّة؛ فلم تكن سوسن تحظى يوماً بالخصوصيّة، بل وكانت تشجّع ابنها طارق على تعنيفها؛ فكانت سوسن تخاف من تلك التهديدات، كونها مازالت في سنٍّ صغيرة، بالإضافةِ إلى أنَّها تخشى من مجتمعها الغارق في تحفّظه، وصمته عن كلّ العنف الممارس ضدَّ النساء، وخطواته الخجولة حيال ذلك الظلم المجحف حتى بحقّ الضمير الإنساني. تحمّلت سوسن العنف لخمس سنوات، وباءت محاولاتها العديدة بالانتحار بالفشل، حتى حملت بطفلتها، وحين أخبرته بذلك الحمل ظنّاً منها أنَّه قد يتغيّر في معاملته، فوجئت باتهامه لها بالخيانة، وتبرّأ من الجنين، وانهال عليها بالضرب بوحشية، وحاول حرقها وتشويهها. استطاعت سوسن وبصعوبة الهروب منه، وأمضت فترة حملها في بيت أهلها على مضض، حتى أنجبت مولودتها. بعد ذلك تدخّل الأهل للصلح، وتمّ إجبار سوسن للعودة إلى زوجها كونها أصبحت أمّاً لطفلته، وهم غيرُ مستعدين لا ماديّاً، ولا معنويّاً لتحمّل نفقاتِ طفلةٍ لا تحمل نسبهم. عادت سوسن إليه بعد وعده الكاذب بتغيير معاملته لها، لكن يبدو أنَّ الأمر تطوّر أكثر فأكثر، فانصرف للشرب، والسهر، والخيانة، كان يأتي كلّ يوم مخموراً، ويجبرها على مضاجعته حتى لو كانت متعبة، أو مريضة. طلبت منه الطلاق لاحقاً، فضربها بعنف بأدوات ثقيلة، هي وطفلتها التي لم تتجاوز السنة، هربت إلى غرفتها، واتّصلت بأهلها لإسعافها. في المشفى تبيّن أنَّها تعاني من كسور ٍ في الرأس، ورضوضٍ في الجسم، وقضت شهراً في العناية المشدّدة تحت تأثير الأدوية، والمسكّنات؛ وبعد تماثلها للشفاء رفعت دعوى تفريق، وقضيّة تعنيف، وانتهت الإجراءات لصالحها بعد عدة شهور. نعم نجحت سوسن في الحصول على حريّتها من زوجها، وانفكّت عنها قبضة تعنيفه القاسية، وذهبت للعيش مع أهلها في تركيا لتجد نفسها ثانيةً مكبّلة بسطوة إخوتها، وتسلّط زوجاتهم؛ كانوا يتقاذفون مسؤوليتها واحداً تلوَ الآخر، وأصرّوا على تزويجها لرجل يحملُ همّها (على حدّ زعمهم) ليستريحوا منها، ومن طفلتها؛ حتى لو حمّلوا مسؤوليتهما لرجل متعدّد الزيجات، ولديه أطفال. كانت سوسن تخشى على ابنتها من نفس مصيرها البائس ومع زوج الأمّ إنْ تزوجت، كما تخشى من استمرار البقاء تحت وطأة الحاجة الماديّة في بيت أهلها دون عمل. لازالت سوسن صامدة وتعاني، لكن إلى متى؟ وكلّما سنحت لنا فرصة أنا وسوسن نلتقي على فنجان قهوة نفترش همومنا مع رائحة قهوتنا، وكلّ واحدة منّا تشربها بشكلٍ وطعمٍ مختلف، تماماً كما هي حياتنا. بعد أحاديث طويلةٍ تدور، وتدور، أسرحُ بخيالي، أتنهَّد تنهيدةً طويلةً تذكّرني بأنّ بيتنا ليس البيت الوحيد المتصدّع كما كنت أعتقد، معظمُ البيوت متصدّعة، ومشقّقة، معظمها تقطر سقوفها بالماء، أو تقطر دموع قاطنيها على وسائدهم، ولكن لكلّ شخص طريقته في الكتمان، لحين الالتقاء بالأشخاص المناسبين للبوح لهم بما يعاني.

 

علياء الناصر 

شبكة المرأة السورية 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »