عبير محمد
“عشت ثلاث سنوات من حياتي خارج حدود الزمان والمكان” … شهادة مختطفة من مدينة عدرا عام 2013 فترة تواجد ونشاط الجماعات الإسلامية المتطرفة، والتي أخذت تمتد في أغلب المناطق ومنها منطقة عدرا العمالية في شمال شرق مدينة دمشق، تبعد عنها مسافة 25 كم، ويبلغ عدد سكانها بحدود ال50 ألف نسمة. وهي تابعة لناحية دوما التي كان فيها آنذاك جيش الإسلام بقيادة زهران علوش. سكانها أغلبهم كانوا وافدين من المناطق المجاورة وكانوا خليطاً من المذاهب المتعددة.
اليوم الدامي
كان أهالي منطقة عدرا يعيشون حياتهم بشكل طبيعي حتى بدأت أقدام غريبة تدخل للمنطقة وتشتري المنازل بنسب عالية، ولفت انتباه الأهالي وجود عناصر تعمل باسم الهلال الأحمر، لتدخل المنازل وتتحدث إلى أصحابها. وبدأت أيضاً مظاهر غريبة تظهر مثل وضع علامات على البيوت لتمييزها طائفياً، حتى أتى ذلك اليوم الدامي.
كان يوم أربعاء والأوان مثلجاً، مما أدى لانقطاع الطريق بسبب تراكم الثلوج، تقول صاحبة الشهادة ميادة (وهو اسم مستعار): “كانت الساعة الثالثة فجراً عندما بدأنا نسمع إطلاق رصاص كثيف من منطقة التوسع المنطقة السفلى لعدرا حيث تقسم المدينة لقسمين قسم يدعى التوسع، والآخر يدعى الجزر”.
“علت الأصوات بالصراخ بأن هناك هجوم على المدينة، كنا أنا وزوجي وأولادي في حالة ذهول وتوتر لم نعد نعلم ما الذي سنفعله، فجأة أتى اتصال من الجارة تطلب منا النزول إلى السيارة للهروب من المدينة، لكننا لم نتجرأ على الخروج من المنزل خوفاً من أن نتعرض للقتل أو الذبح ضمن إبادة جماعية”.
“نزلنا للأقبية وأحرقنا كل أوراقنا الثبوتية والبطاقات المصرفية وكل ما يدل على انتمائنا الديني. بدأ الأولاد بالصراخ، وصار الكبار ينادون ويستنجدون بالدولة، وقتها تبين أن المنطقة قد بيعت وخصوصاً أن أماكن القناصين والقواعد العسكرية التي كانت متواجدة بالمكان قد اختفت قبل يوم من الهجوم”.
“نزلنا للقبو حيث يتواجد مجموعة أشخاص يرتدون ملابس ورموز تدل على انتماءهم لفصائل مختلفة، لم نكن نعلم حينها ماهي هذه الفصائل، حتى عرفنا أنها من أغلب الجبهات مثل أحرار الشام والنصرة وجيش الإسلام، والاتحاد الإسلامي بدوما”.
“أخذوا بطاقاتنا الشخصية، وتركونا بالقبو لمدة يوم، وفي اليوم الثاني ساقونا لمنازلنا، ثم سرنا خلف المدرسة المقابلة لمنزلنا، وفي الطريق رأينا حفرة كبيرة فيها جثثاً، بعدها وضعونا بباصات بعد أن أخذوا جوالاتنا، وأخذوا يلوحون بخناجرهم كتهديد لنا بالقتل”.
“أخذوا زوجي مع الرجال الآخرين، ووضعوني في مكان مليء بالنساء الأخريات الأسيرات مثلي مع أولادهن، لنبقى أيام معدودة في هذا المكان الذي يفتقد لأدنى مقومات العيش، حيث هناك عدد هائل من الأطفال والنساء ولا يوجد سوى حمام واحد”.
“وضعوا عصابات على أعيننا ونقلونا إلى مكان عرفنا لاحقاً إنها تدعى الجزيرة السابعة. جلست أنا وأولادي مع 250 امرأة وطفل بنفس الغرفة، وبدأوا بالتحقيق معنا وتصويرنا بالحجاب وبدونه”.
“كان المكان مليئاً بالأوساخ ولا يوجد حمام للغسيل، مما جعل القمل يغزو رؤوسنا وأجسادنا، ومن شدة ما قاسيناه هناك كانت النساء الحوامل تلدن بعمليات قيصرية بدون بنج. أمضينا أربعة أشهر في ذلك المكان، والتي كانت كالجحيم الذي لا ينتهي. بعدها أخذونا إلى التوسع ووضعونا بقبو كبير، لكن أيضاً ليس فيه أي شيء يساعد على العيش.
“عندها طلبوا مني أن أعمل كطباخة لهم، وبقيت كذلك لمدة 3 أشهر، أثناء ذلك علمت أنهم يحفرون نفقاً إلى دوما، كانوا يجبرونن الأسرى على حفر ذلك النفق، ثم قسمونا كحصص لمجموعة من الفصائل فكنت عند الاتحاد الإسلامي ووضعوني مع الأخريات في برادات للمداجن، وأخذونا لمكان آخر في عدرا. هناك أخذوا يجلدوننا أثناء التحقيق. الجلاد كان يسمى أبو صبحي، كان رجلاً ضخماً بلحية متناثرة ووجه عريض. وضعوني كحارسة على الأسيرات الأخريات، ولقبوني بأم عبد الرحمن”.
“لم تنته رحلة شقائنا، فقد أجبرونا على السير في النفق من عدرا إلى دوما. استغرق المشي يوماً كاملاً، مترافقاً مع بكاء الأطفال، لنبقى بعدها في سجن في مدينة زملكا يقع تحت الأرض. ويا لها من معاناة حيث القذارة وقلة الطعام. لم يفارقنا الخوف، حيث حققوا معنا. كان المحقق هذه المرة شخصاً لافتاً للإنتباه بخواتمه الكثيرة وذقنه الطويلة جداً. وكان أحد الخواتم يحمل إشارة الماسونية، وعندما رآني أنظر للخاتم قال لي نعم أنا ماسوني وأخذ يضحك. ويتفوه بكلمات بذيئة”.
“بعدها أعادونا إلى دوما بنفس ظروف المعيشة السيئة، كنت مريضة نتيجة ورم بالغدة النخامية، حيث تفاقم مرضي بسبب قطع الدواء. كانت الحياة هناك قاسية جداً، فالمياه باردة كالثلج أثناء الحمام، والطعام قليل. كانت المرضعات تتعرضن للمرض هن وأطفالهن حديثي الولادة بسبب قلة الطعام. أخذوا يضعونا بالمنفردة ويضربونا على وجوهنا ضربات قوية، مع تقييدنا, وتعصيب أعيننا”.
“بعدها فقدت الذاكرة لمدة 6 أشهر، بسبب الإبر المخدرة التي كانوا يعطوني اياها، أثناء فقداني للذاكرة كنت أعمل بالتطريز، لكنهم كانوا يأخذون أعمالنا ويبيعونها. كنا أيضاً نأخذ دروساً دينية بشكل يومي ودون انقطاع”.
“تم بيعنا بعد فترة لفصيل آخر في حرستا، حيث أخذوا يتواصلون مع أهالي المخطوفات لأجل الابتزاز. حتى أتى اليوم الذي أفرج فيه عنا، ضمن ظروف لم أعرفها، قد تكون ضمن عملية تبادل أسرى أو تفاوض. خرجنا من جحيمنا، مثقلات بالآلام والهموم، خرجنا بأعداد هائلة. نساء كثر كل تحمل ندبتها وتجربتها القاسية، فمنهن من تعرضن للإجهاض المتكرر ومنهن للحمل والولادات بظروف مجحفة جداً وخطيرة. ومنهن تعرضن للاغتصاب على أيدي رجال الفصائل، كما تعرضت الأغلبية للجلد والتعذيب والإهانات المستمرة”.
“والغريب أن ما حدث لهؤلاء النسوة كان على مرأى ومسمع كل العالم من منظمات حقوقية وانسانية، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة ، الذين لم يحركوا ساكناً لأجلهن واكتفوا بالشجب والاستنكار”.
“وهكذا ختمنا ذلك اليوم المسمى بـ(بالثلج الأسود)، والذي امتد لسنوات ثلاث، كنساء خارج حدود الزمان والمكان”.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”