فيصل علوش
إذا صحّ أنّ الدساتير والقوانين هي المحور الأساس المنظم للعلاقة بين المجتمع (بجميع مواطناته ومواطنيه)، وبين السلطة بمؤسساتها وأجهزتها كافة، فيمكن أن نستنتج أنّ طبيعة تلك الدساتير والقوانين تعكس وتحدّد إلى حدّ كبير طبيعة السلطات القائمة في بلداننا من جهة، وتعبّر من جهة أخرى، عن إحدى أهم الإشكاليات القائمة في عالمنا العربي، وهي المتصلة ببناء دولة مدنية حديثة تكون تشريعاتها وقوانينها مشتقة من المدونات الحقوقية الوضعية، التي باتت كونية في شطرها الأغلب، وليس من المرجعيات الدينية الغيبية.
القصور الدستوري والقانوني الذي نعاني منه لا يقتصر على الجوانب المتعلقة بطبيعة الأنظمة السياسية القائمة، ومدى توافر الديمقراطية والحريات فيها، أو الفصل بين السلطات.. الخ، إنما يمتد ليصل إلى قوانين الأسرة والأحوال الشخصية؛ حيث تفتقر أغلب الجمهوريات والملكيات العربية على حد سواء، للمواد والنصوص الصريحة التي تصون وتضمن حقوق الانسان بصفة عامة، وحقوق النساء بصفة خاصة.
قد تنصّ بعض الدساتير العربية على «التزام الدولة باتخاذ كافة التدابير التي ترسّخ مبدأ مساواة المرأة مع الرجل»، لكنها تضيف «دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية»، وهو ما يثير قضايا خلافية تتجاوز مسائل الزواج والطلاق والميراث، إلى الانتقاص من حقوق أساسية للمرأة؛ مثل تقييد حركتها أو سفرها دون إذن ولي الأمر (الأب أو الزوج)، أو منع ترشّحها للمناصب القيادية العليا في الدولة، مما يفرض عليها واقعا تمييزيا ورجعيا دون أي لبس أو مواربة.
السودان قبل وبعد التغيير
وللتوضيح أكثر، دعونا نقارن الوضع في السودان بين ما كان عليه في عهد الرئيس السوداني السابق عمر البشير، وما أصبح عليه بعد سقوطه؟. فقد عُرف عهد البشير بمصادرة الحريات بصفة عامة، وكذلك بالقوانين التي لا تكرّس التمييز ضد النساء فحسب، بل وتمعن في ممارسة العنف ضدهن. مثل قانون «النظام العام» القائم على الشريعة، والذي تعرضت بموجبه آلاف النساء السودانيات للجلد أو السجن، لأسباب تافهة كثيرة، منها ارتداء ملابس تُصنف على أنها فاضحة، (مثل البنطال!)، قبل أن يتمّ إلغاؤه أخيراً.
أما بعد الحراك الجماهيري، الذي شاركت فيه «الكنداكات»*1 بكثافة وزخم عالٍ، وأفضى إلى سقوط البشير ونظامه ذي الصبغة الإسلاموية، فقد شرعت السلطات الجديدة بسنّ تعديلات تحدّ من تلك القوانين الجائرة، مثل تجريم ختان الإناث، وإقرار حق المرأة في اصطحاب أطفالها في حال السفر خارج السودان، من دون موافقة الزوج أو الوصي الشرعي.
وتتطلع كنداكات السودان إلى إلغاء كافة القوانين المقيدة لحرياتهن، وخصوصاً تعديل قانون الأحوال الشخصية لسنة 1991، الذي يعتبرنه قانونا مجحفا ومنتهكا لكرامة المرأة السودانية، وبموجبه تقضي كثير من السيدات سنوات في المحاكم بسبب قوانين الحضانة والزواج والطلاق. فضلا عن أنه لا يتوافق مع الاتفاقات الدولية المتصلة بحقوق الانسان، ومنها اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، التي يعدّ السودان من الدول القليلة التي لم توقع عليها!. أما سورية فقد وقعت عليها لكنها تحفظت على عدد من بنودها.
خطوة جريئة في تونس
في آب/ أغسطس 2017، أعلن الرئيس التونسي الراحل، الباجي قائد السبسي، بأن تونس «ستمضي في إقرار المساواة الكاملة بين المرأة والرجل، بما في ذلك المساواة في الإرث». ليثير بذلك جدلاً واسعاً، في تونس كما في غيرها من البلدان العربية. وفي خضم الجدل الدائر أعربت تونسيات كثيرات عن اعتقادهن بأن قوانين الميراث وفق الشريعة، تتناقض مع مبدأ «المساواة في الحقوق، كما نصّ عليه دستور الجمهورية الثانية الذي اعتمد في 2014».
يذكر أنّ المرأة التونسية كانت حصلت على الكثير من المكاسب القانونية منذ عهد الزعيم التونسي الراحل، الحبيب بورقيبة، الذي أقرّ إصلاحات جذرية في هذا المجال كان أهمها «مجلة الأحوال الشخصية» لعام 1956، التي منحت المرأة حقوقاً واسعة؛ فمنعت تعدد الزوجات، وأعطت المرأة حق الطلاق، واعتبرت في حينه خطوة ثورية في مجتمع تحكمه العقلية الذكورية السائدة، والعادات المتوارثة التي تجعل المرأة مواطناً من الدرجة الثانية.
وفي الواقع، فإن المساواة الكاملة بين الجنسين في الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، باتت تفرض نفسها بقوة بوصفها قضية اقتصادية واجتماعية وحقوقية من الطراز الأول، لأنها وليدة التحولات والتغيرات المختلفة التي عاشتها المجتمعات العربية (في تونس وسوريا وغيرهما)، وفي مقدّمها تبدل الدور الذي باتت تلعبه المرأة في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، سواء لجهة انخراطها الواسع في سوق العمل، أم لجهة اشتراكها في إعالة أطفالها، وفي المسؤولية المالية داخل الأسرة بشكل عام.
وتكتسي مثل هذه القضية خصوصية فائقة في سوريا هذه الأيام، لجهة اضطرار كثير من النساء للدخول الاجباري إلى سوق العمل في ظل حاجتهن الماسّة لإعالة أنفسهن أو أطفالهن أو عائلاتهن، بالنظر إلى فقدان الزوج أو الرجل المعيل، جراء الحرب والتهجير والظروف المعروفة لنا جميعا!.
وبالطبع، فإنّ التمييز ضد المرأة السورية كان قائماً في الأصل، ويتضح ذلك على وجه الخصوص في قوانين الأحوال الشخصية ومجال الأسرة التي تستند إلى المرجعيات الدينية، وتضع الرجال في موقع السيطرة بما تمنحهم من حقوق تُقيّد حركة النساء وحريتهن، وتجعل من «المؤسسة الزوجية» وسيلة لسلب إرادة المرأة وقهرها، وفرض الأمر الواقع عليها في كثير من الأشياء.
ويبرز في هذا الصدد، تعدد المرجعيات الدينية لقوانين الأحوال الشخصية في سورية، تبعا للطوائف والمذاهب الدينية الموجودة التي يحق لكل منها استخدام قانونها الخاص، حيث يوجد ثمانية قوانين نافذة تحولت إلى «معاقل رئيسة للتمييز ضد جميع النساء السوريات، كونها تتمتع بحصانة ضد التغيير، نظراً لنسبتها إلى المقدس»*2. هذا فضلاً عن كونها تكرّس الانتماءات ما قبل الوطنية، وتتناقض مع مبادئ الدستور الذي يُفترض أن يكفل «مساواة جميع المواطنين أمام القانون»، وباتت تعيق بالتالي أحد الأركان الأساسية المتصلة ببناء دولة مدنية حديثة.
يبقى أن نشير إلى أنّ ثمة ضرورة أكيدة للنصّ القانوني على ما يصون ويحمي حقوق المرأة عامة، ولكن ذلك يعتبر شرطا لازماً وليس كافيا لحصولها على تلك الحقوق. فالمبدأ القانوني وحده قد لا يُحدث فرقا كبيراً، لأن ثمة مجالا كبيرا للتحايل عليه، وخصوصا في ظل سيطرة العقليات الأبوية التقليدية، والأعراف والتقاليد التي تنتصر غالباً للرجل. إضافة إلى تعوّد المرأة ذاتها على وضع الانتقاص من حقوقها والحط من مكانتها، وربما تفضيل بعضهن لهذا الوضع «المريح» على السير في طريق الحرية الشاق وصعب المنال!.
…………………………………
*1ـ «كنداكة»: لقب أُطلق على المشاركة في الاحتجاجات السودانية، ويعني المرأة الثورية أو القوية، وهو لقب من الموروث التاريخي السوداني كان يطلق على ملكات النوبة.
*2ـ «التمييز في قوانين الأحوال الشخصية في سورية / بحث مقارن / إعداد: رابطة النساء السوريات / 2009ـ 2010».
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”