آمال شيخ دبس
وسط الفوضى التي عمّت ربوعَ الوطن، وبينَ أنيابِ الرعبِ وأمطارِ القذائفِ والبراميلِ وشبح الحصار الخانق، عاش انسانٌ حملَ على عاتقه رايةَ العلمِ، وسقى براعمَ المستقبلِ من عصارةَ فكره، ونزفَ ألماً وانكساراً حينما طالتِ الاعتقالاتُ التعسّفيةُ كلَّ مواطنٍ أخذ عنه حقّ التعبير عن رأيه وحريته… إنّهُ المعلمُ، الذي أصبح اسمه لاجئاً بمجرّد وصولهِ الى دول اللجوء.
من ظلمةِ غربته سطع نورُ الأملِ حينما تمّ افتتاحُ المدارسِ السوريّةِ في تركيّا فتطوّعَ للتدريسِ فيها دونَ تردّدٍ ليعيد السكينةَ إلى أطفالنا.
بعدَ عامٍ تطوّعيٍّ تبنّتِ اليونيسيف المعلّمين وتكفّلت بمنحهم مساعدةً اجتماعية شهريّةً جرى تسميتها مجازاً بالراتب، وتدرّجت خلال الأعوام الستّ الماضية من529 إلى 2020 ليرة تركية أيّ أقل من الحدِّ الأدنى للأجور في تركيا.
في الآونة الأخيرة نزل خبرُ فصلِ بعض المعلّمين كالصاعقةِ على أسماعهم إذ تجاوز المئة معلّماً موزّعين على عددٍ من الولايات التركيّة.
تقول (ضحى) بأنّ خبرَ الفصلِ جاءَ متزامناً مع تأخّر الراتب وبأنّ نيرانَ القلقِ التهمتْ شعورَها بالأمانِ المادّيّ.
(ضحى) معلّمةٌ سوريّةٌ في الثالثة والخمسين من عمرها، زوجُها الذي تجاوز الثالثة والستين ويعاني من إعاقةٍ شديدةٍ في السمع، وسبقَ وخضع لعمليّةِ قلبٍ، هو أسيرٌ داخلَ البيتِ دون عملٍ. يعيشان مع ابنتهما، طالبة سنة أولى في كلية التجارة وابنهما المتزوّج وطفله الصغير.
بيّنت “ضحى” بأنّ المعلّمين قد وقّعوا على أوراق التطوّع معترفين بأن الراتبَ هو مجرّدُ حافزٍ شهريٍّ وبأنّ المنظمةَ قد توقفه دون إعلام أحد، وقد كان عليهم خَلْقُ كيانٍ نقابيٍّ يمثّلهم، ويدافع عن حقوقهم، ويُعْلِمُهُم بكلِّ المستجدّاتِ.
تستأنف (ضحى) رواية ألمها وحزنها وتقول: “على الرغم من ذلك الخبر المتعب وعند المساء حينما يراودني طيفُ ولدي، الذي سقى بدمائه تراب مدينة حلب بداية الثورة السورية أمام عينيّ… حينها أستطيع أن أُفْرِجُ عن دموعي وأبكي بحرقةٍ… عندها فقط أجد مبرّراً للبكاء، ولا أضطرُّ لذكر كابوسِ الفصلِ الذي راودني ولا لذكرِ آلام قدميّ نتيجةَ تغييري لطريقِ عودتي إلى البيت، حتى لا أصادفَ صاحبَ السكن فينهشَ كرامتي وهو يسألني عن الإيجار القابع في راتبي المتأخر … ولن أضطّرّ للتطرّق على ذكر البراد الذي تذرّعتُ بتنظيفهِ بعد أن تعرّى من الطعام و الشراب”
وتكمل (ضحى) حديثها ليس فقط حول قلقها على مصيرها وبعض المعلمين والمعلمات بل أيضاً على مستقبلِ الأجيال القادمة من أبناء سوريا، فدمجُ الطلّاب السوريّين مع الأتراك حتّمَ عليهم الدراسةَ بالتركي، وهذا يعني طيَّ اللغةِ العربيّةِ المكتوبة والمقروءة ورميها في دهاليزِ النسيان، كما اقترحتْ ادخالَ اللغةِ العربيّةِ على المناهجِ الدراسيّةِ حفاظاً على هويّتنا، ولتكونَ عوناً للأجيال القادمة في بناءِ الوطن، والقدرة على الاندماج فيه عند العودة.
أما المعلمة (أمل) والتي أثقلت الأوجاع والهموم كاهلها في مناطق الداخل السوري المحرر… فبعد فقدانِ شقيقِ زوجها لأحد أطرافه واسعافه إلى تركيّا ومرافقة زوجها له… بقيَتْ في بيتٍ واحدٍ مكتظّ مع أربعِ عائلاتٍ وأطفالهم، تأزّم مشاكلِهم العائليّة ،و شدّة القصف الذي تعرضت له المنطقة جعلها تقرر اللحاقَ بزوجها إلى تركيا مهما كان الثمن، وعند وصولها بأمان تطوعَت مباشرةً للتدريسِ في إحدى المدارس السوريّة.
وبحرقةٍ ولوعة تصف (أمل) أجيالنا في أماكن النزوح واللجوء قائلةً: (شبابُنا شتلاتٌ اجتثّت من جذورها، بعضُها أورَقَ حينما أتقنَ اللغةَ وتابع تعليمَه وتفوّقَ وتألّقَ، والبعضُ اضطرّ للعمل في المعامل والورشات والمطاعم لمساعدة عائلته، ومنهم ابني الكبير الذي بلغ حالياً الثالثة والعشرين عاماً والذي يتخبّط بأفكاره السلبيّة بسببِ بطالتِه كالكثيرِ من شبابنا.
أوجدوا عملاً لابني يشعرُ فيه بإنسانيّته، فلا تكون ساعاتُ العملِ الطويلةِ غير متناسبةٍ مع أجره أو لا يكون فيه اضطهادٌ وعنصريةٌ ويحصلُ معه على السكورتا، وبعدها فليفصلوني.
سأُحمّلُ ابني عندها عبءَ تكاليفِ دراسةِ شقيقهِ ذي العشرين عاماً لامتحان قبول الأجانب في الجامعات التركيّة و المسمى ب(اليوس)
(اليوس) الذي بات كابوسَ كلّ طالبٍ سوريّ يحلمُ بدخول الجامعة وكابوسَ عائلته إن لم تكن ميسورة الحال.
على أرجوحةِ الإشاعاتِ والتنبّؤاتِ والتكهّناتِ يعيش المعلّم حاليّاً دون درايةٍ لسببِ فصلِ البعضِ ولا لسبب تأخّرِ الرواتبِ…
وبين فكيّ الواقعِ المادّيّ يجاهدُ ملتفحاً بكرامته المهنيّةِ.
نحن لا ننكرُ أن البعضَ لم يجد فرصةً للالتحاق بالمدارس السوريّة في تركيّا، فنجده مع ثلّةٍ من خرّيجي الجامعاتِ يعملون في المعامل وورشات الخياطة فيبذلون فيها جهداً مضاعفاً لا يتناسب مع الساعات الطويلة ذات الأجور البخسة.
لا ننكرُ بأن الغالبيّةَ ممّن كان سيتقاعدُ في سوريا واضطر للتدريس ههنا، يشعر بالخذلان حاليّاً، إذ فقد حقّهُ بالراتب التقاعديّ هناك، وهنا مهدّدٌ بالفصل بأية لحظة.
لا ننكر بأن المعلمَ الذي قضى جُلّ حياته وهو يؤسّس بيته ليعيش برفاهيّةٍ بعد التقاعد، قد فقد كل شيء وبدأ هنا من الصفر.
كلُّنا مدينون للمعلّم ومن حقّه علينا كأفرادٍ ومنظّماتٍ أن نشعرَ بمعاناته ونجيب عن تساؤلاته ونجد الحلول لمشاكله في الضغط على الجهات المسؤولة عن التعليم في تركيا بإدخال مادة اللغة العربية على المناهج وتكليف المدرسين السوريين بتدريسها إضافة لتبرير سبب الفصل أو تأخر الرواتب، وألّا نترك المعلم بين متاهات الشكّ والواقع يواجهُ إعصارَ الفصلِ وحيداً.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”