فيصل علوش
«العنف» لغةً يعني الأخذ بالشدة والقسوة وعدم الرفق، قولاً أو فعلاً. وهو سلوك عدواني يصدر عن طرف بهدف إخضاع طرف آخر، في إطار علاقة قوة غير متكافئة. والعنف يشمل السبّ والضرب والقتل والاعتداء… الخ. وفي موضوع النساء؛ يأتي من طرف رجل أو مؤسسة أو نظام قمعي، أو حتى من طرف امرأة من أجل إخضاع المرأة والتسلّط عليها.
وبدافع الشفقة يقال: «حريمة خطيّ، المرأة ضلع قاصر، النسوان بنصّ عقل، همّ البنات للممات…»؛ وهذه غيض من فيض الأمثال الشعبية التي يتمّ تداولها بشكل متكرر في أحاديثنا اليومية المعتادة، وكذلك في وسائل الإعلام والمسلسلات الدرامية، ولكنها كلّها تكرّس الثقافة الشعبية الرائجة حول عدم كفاءة المرأة، أو «غبائها وكثرة ثرثرتها»، وأقلّه أنّ النساء ضعيفات وبحاجة إلى الحماية أو الوصاية، أو الاهتمام والمساعدة.
وتسوّغ بعض الأمثال الشعبية، في المجتمع السوري وغيره من المجتمعات العربية، التمييز السافر ضد النساء، وتعود مرجعية كثير منها للموروث الاجتماعي والتقاليد المتوارثة. بل ويسود الاعتقاد على نطاق واسع، في العالم ككل ولدى الجنسين على حدّ سواء، أنّ النساء لا يصلحن لكثير من المهن، مثل القيادة السياسية، أو ترؤس الشركات وإدارتها، إضافة إلى اعتبار أن ارتياد الجامعة أهمُّ للرجل منه للمرأة، وكذلك بشأن الأولوية التي ينبغي أن تعطى للرجال في سوق العمل عموماً.
صنوف العنف
مثل هذه القناعات والأمثال المتداولة، تُعدّ أهون الشرور التي يمكن أن تلحق بالمرأة مقارنة مع أشكال وصنوف العنف والتمييز الأخرى، التي تُعتبر أحد أكثر انتهاكات حقوق الإنسان شيوعاً وانتشاراً عبر التاريخ، وذلك منذ أن تمّ إخضاع النساء لسيطرة الرجال، (أو حتى إلحاقهن كملكية خاصة بهم لدى بعض الجماعات البشرية)، ومن ثم سيطرة النظام البطريركي (الأبوي)، الذي يعتبر الرجل (المالك) نفسه فيه متفوقاً جندرياً على المرأة، وما على الأخيرة سوى التسليم بذلك وقبوله كأمر واقع.
وعلى رغم سقوط النظام الأبوي، وحصول المرأة منذ زمن طويل نسبياً على الكثير من حقوقها في أغلب بلدان العالم، إلا أنّ مظاهر العنف والتمييز بقيت مستمرة، بالنظر إلى استمرار اختلال العلاقة بين الرجل والمرأة. هذا الاختلال الذي يجد سنداً لها في الثقافة والدين والأعراف والعادات الاجتماعية، فضلاً عن البنى المجتمعية التي تنتج وتعيد انتاج علاقات القوة غير المتكافئة بين الجنسين، على مستوى الفرد والأسرة والمنظومة الاجتماعية بشكل عام.
ولعلّنا نلمس جميعاً كيف أنّ الثقافة السائدة تُعزّز تسلّط الذكر منذ صغره، بينما تكبر الفتاة وهي تتعرّض لشتى صنوف الإهانات والانتقادات اللّاذعة، وتُطالَب، في الوقت نفسه، بأن تتقبل ذلك برضا واستسلام، مما يُضعف ثقتها بنفسها، ويُسبّب لها الاكتئاب، وتصبح غايتها هي إرضاء الآخرين، (الأهل ومن ثم الزوج)، وليس إرضاء نفسها، وسط مناخ وثقافة يكرّسان الاستكانة والخنوع لدى النساء.
اللغة تنحاز للأقوى
وكما درجت العادة، فإنّ اللغة تنحاز للأقوى، مثلها مثل القوانين والأعراف المعتادة، فوصف العُهر، مثلاً، على رغم أنه نعتٌ مجرد يصحّ على كلا الجنسين، إلا أنه غالباً ما تختصّ به المرأة، فنقول عنها «عاهرة»؛ فيما يندر أن نصف رجلاً بأنه عاهر!.
وحتى عندما نريد أن نمدح ونشيد بامرأة قوية وعلى قدر المسؤولية، فإننا نصفها كـ«أخت الرجال»؛ مما يرسّخ صورة الرجل كمعيار ومثال للتفوق. في حين يعتبر تشبيه الرجل بالنساء شتيمة أو إهانة بالنسبة إليه. «لا تكون متل النسوان.. أو لا تبكِ مثل النساء…»، هكذا يقال في الأمثال الدارجة!.
وأمام الكم الكبير والمتنوع لأشكال العنف المادية والجسدية الممارسة ضد المرأة، فقد غفل كثيرون عن العنف اللفظي واللغوي الواقع على النساء، على رغم أن وقعه وآثاره قد تكون أشدّ إيلاماً على المرأة، (أحياناً على الأقل)، من العنف الجسدي المباشر!.
ويعدّ العنف اللفظي، (الذي لم يُدرج إلا مؤخراً ضمن مفهوم العنف الواقع على المرأة)، من أكثر أشكال العنف انتشاراً في المجتمعات، ويجيء من خلال التوبيخ بألفاظ جارحة، أو الاستهزاء والتحقير والشتم، أو استخدام مصطلحات وأمثال شائعة تُحرجها وتُهينها، وهي ممارسات يجري القيام بها وتقبلها على نحو اعتيادي، دون إدراك عواقبها النفسية والاجتماعية.
العنف «الناعم»!
ويلعب العنف اللغوي واللفظي، الذي يصحّ وصفه بالناعم، دور المُشرّع والمُمهّد غالباً، للعنف الجسدي الفجّ والمباشر. في الوقت الذي يغيب فيه لدينا الاهتمام، عادة، بثقافة مناهضة للتمييز الجنسي ضد النساء، أو الوقوف على النحو المطلوب في وجه الانتهاكات المرتكبة؛ (مثل جرائم الشرف، وحالات الاغتصاب). وفي ظلّ تخلف القوانين المعمول بها وعجزها عن معاقبة الفاعل، تدفع المرأة وحدها ثمن هذا العنف، في حين يقف القانون في كثير من الدول المتقدمة بصرامة وحزم أمام هذه الارتكابات.
ويجدر التنويه في هذا الصدد، إلى تزايد الانتهاكات التي تحصل للمرأة في مجتمعاتنا العربية في السنوات الأخيرة، (وليس تراجعها أو انحسارها مع التقدّم في الزمن)، وذلك في ظلّ تدني المستوى الثقافي والذوق العام والأخلاق والتعاملات بين الأفراد، أو بين المجتمع ومؤسسات الدولة الرسمية، بالتزامن مع اشتداد الاستبداد الذي تمارسه السلطات من جانب، وتنامي حركات الإسلام السياسي، من جانب آخر. والأخيرة تُعبّر صراحة عن خشيتها من أن يكون الغرض من وراء إثارة النقاش حول قضايا المرأة وسيلة من وسائل التغيير الثقافي لمجتمعاتنا، وفرض ما يسمّونه «الرؤى النسوية المتفلتة من قيم الدين والأخلاق»!.
يُنبّهنا هذا إلى محاولة توظيف الدين لشرعنة الهيمنة الذكورية، ويحضّنا على الوقوف ضد إضفاء طابع القدسية على مظاهر التمييز ضد النساء. والتأكيد على أنّ النساء «لسن ناقصات عقل ودين»، كما يشاع، مثل الحديث المنسوب إلى النبي محمد: «لا يفلح قوم ولّوا أمرهم لامرأة»!. كما سبق وطالبت الكاتبة المغربية الراحلة فاطمة المرنيسي، واضعةً هذا النوع من التشريعات في قفص الاتهام، ومُحمّلةً إياها قسطاً من مسؤولية تدهور وضع المرأة، والتعامل معها كجارية مجردة من أية حقوق.
وعلى العموم، يجدر التشديد على الأبعاد الثقافية والاجتماعية والدينية لظاهرة العنف والتمييز ضد النساء، والتي قد تكون سلطتها أقوى من القانون الرسمي «الفوقي». وعليه، فإنّ إقرار القانون وحده غير كافٍ، ويحتاج الأمر إلى تغيير في العقليات والوعي الاجتماعي السائد. فمثلما توجد نساء منخرطات في محاربة العنف والتمييز ضد المرأة، يوجد، في المقابل، عدد كبير منهنّ يقفن مع هذه الممارسات ويدافعن عنها ويمارسنها أيضاً!
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”