منتهى شريف
“حدا ينقذنا … خلي حدا يجي ينقذنا قبل ما نموت هون كلنا”.
صرخت سلوى بهذه الكلمات وهي تركض باتجاهي حاملة طفلتها الوليدة فيما كانت تجرُّ بيدها الأخرى طفلها الثاني من يده.
كانت الحارة تعجّ بالدخان الأسود الذي بدأ يصبح غمامة سوداء في سماء الحي فتنقطع انفاسنا معه. كنا مصدومين جميعاً، الجميع يركض بالاتجاه المعاكس للدخان ويصرخ بالسؤال: “شو فيه؟”، البعض تخيل أجوبة ولم يتردد في قولها على مسامع النساء والأطفال: “ابتعدوا سينفجر المكان بعد قليل… ابتعدوا سيحترق كل شيء بعد قليل …”.
لكن على الرغم من تلك التحذيرات كنت أرى رجالاً وفتية من أهالي الحيّ يركضون باتجاه مصدر الدخان لاستكشاف الأمر، فضول الناس على ما يبدو يتغلب على خوفهم في هذا المكان.
وما هي إلا لحظات حتى سمعنا صوت الانفجار المرعب واشتعل كل شيء!
“الحرب وصلت هنا؟ … بسرعة خلينا نهرب، خلي حدا ينقذنا”، عادت سلوى تصيح في أذني وكأنها متأكدة أنني أستطيع انقاذها وولديها، أخذت طفلتها الوليدة بين ذراعيّ وطالبتها أن تهدأ حتى نفهم ما يحدث، لم يكن لدي الوقت حينها لأطرح عليها أسئلة عن الحرب والانفجارات والرعب الذي اختبرته وجعلها ترتعب لهذه الدرجة: “سنموت جميعاً!”، كررت هذه الجملة مراراً قبل أن تسقط منهارة على الأرض.
بعدها بدقائق قليلة سمعنا صوت الانفجار الثاني الذي جعلنا نصرخ جميعاً، وتتابعت الانفجارات قبل أن نكتشف حجم المصيبة التي حلت بنا، لم يكن حريقاً في أراضي زراعية كما اعتدنا ولا حريق في حرش أشجار فلا أحراش في بلدتنا الذي تصحّرت، كان حريقاً في مخزن اسطوانات الغاز الخاص بالحي.
كم كانت فرحتي وزوجي كبيرة عندما وصلتنا هذا الصباح رسالة نصية على الهاتف كتب فيها أننا وصلنا للرقم 51 ، واقتربت فرحتنا باسطوانة الغاز، فمنذ أربعين يوماً لم نحصل على أسطوانة، ولازلنا نستخدم السخان الكهربائي البسيط بالطبخ ونلعب لعبة الغميضة مع الكهرباء لكي نوفر ما تبقى من الغاز في الأسطوانة للضرورة القصوى. 51 اسم وكانت ستدخل بيتنا اسطوانة الغاز العزيزة، كم خططنا لاستقبالها بطبخ بعض الأطعمة المؤجلة وخبز الفطائر الشهية، و تخيلنا الحلوى التي حرمنا من رائحتها، كيف سيتم صناعتها بلمح البصر، وهاهو الرقم يتلاشى مع الدخان ويحترق أمام أعيننا، بل ويكاد يحرقنا معه.
ابو ماهر، جارنا الثمانيني، تجاوب مع صيحات ” الفزعة” ، استجمع قواه ونهض من فراشه محاولاً المساعدة، لكنه سرعان ما وقف أمام بيته لاعناً “ساعة الغفلة”، ثم بدأ يشير بأصبعه إلى مدخل الغرفة السفلية الآمنة في داره. خبرته في الحروب كعسكري متقاعد، جديته وهو يروي الحكايات عنها، حديثه الدائم عن انتصاراته المتخيلة، كل ذلك جعله يوحي بالثقة، لذلك لم نتردد بالتوجه وفق إشارة اصبعه، هو الذي كان طوال سنوات الحرب الحالية يرفض أي مصدر معلومات إلا المحطات المحلية الأرضية، وقد اعتاد كل صباح أن يقرأ الجريدة المحلية بحماس وفخر، لكن انقطاع الكهرباء عند موعد الأخبار وارتفاع سعر الجريدة كل حين جعله يُقلع عن عادته تلك، ويستسلم للواقع المرير والمرض.
خلال لحظات أدركنا أننا ندخل بيت ابنته، أو غرفة المقاطيع التي خصصها لبناته والتي احتاجتها أم سامي بعد أن جار عليها زوجها والدهر، الغرفة عبارة عن قبو قديم ومتين السقف، يختلف عن بيوت الحي الاسمنتية التي لن تستطيع تجاوز مثل هذا الامتحان والتي لم يتوقع أصحابها يوماً أنها قد لا تكون مكاناً آمناً.
خلال دقائق تجمع غالبية نساء وأطفال الحي في تلك الغرفة، حيث راحت إحداهن تُرتل بعض الأدعية بصوت عالٍ متناسب مع أصوات الانفجار وحِدتها، لكن ام سامي التي وجدت فجأة هذا الجمع الغفير يدخل بيتها دون استئذان علقت الكلمات في فمها وراحت تتفحص الجميع بنظرات الريبة، فهي امرأة معروفة بنظافتها ووسوستها. وسلوى كانت تردد جملة وحيدة: “ما بدي موت … أنا هربت من الموت”. حكاية سلوى مع الحرب طويلة، فقد أخذت نصف سني عمرها العشرين، هي الناجية الوحيدة من عائلة مات كل أفرادها تحت أنقاض منزلهم في منطقتها البعيدة، عاشت سنوات في بيت عمها قبل أن تتزوج أول عريس يتقدم لها وتسكن في حينا.
كان انفجار الاسطوانات يتتابع وغالبية رجال البلدة قد هبوا للمساعدة، بعضهم حمل الطفايات الخاصة بسياراتهم وبعضهم حمل رفشا وجردل ماء، فذلك المخزن المليء بالأسطوانات كان وسط بيوت حيّنا.
وحده أبو جمال صاحب المخزن بقي متجمداً في مكانه يراقب اسطواناته ومصدر رزقه وكل رأسماله وهي تنفجر واحدة تلو الأخرى، يستمع صامتاً لهمسات جيرانه وهم يحللون سبب الحريق، البعض يحلل بأن الرجل كان يسرق الغاز من الاسطوانات ليربح أسطوانات جديدة، وآخرين يخمنون أنه نتيجة ماس كهربائي بسبب تسرب الغاز اثناء انقطاع الكهرباء وعودتها المفاجئة، لكن كلام ابو بشير وحده ماجعله ينتفض مذعوراً عندما قال بثقة وأمام الجميع: “أكيد هذا العمل مدبر… هاي مؤامرة!”، جملته هذه كانت كفيلة بطرده من المكان، فكلمة “مؤامرة” بحد ذاتها أصبحت تثير الغضب.
عاد الشباب لعملهم في إطفاء ما تشعله شظايا الاسطوانات المنفجرة كل حين، محاولين تقسيم العمل فيما بينهم، فسيارة الاطفاء التي حضرت فيما بعد كانت صغيرة ولم يستطع رجالها وحدهم أن يجازفوا باقتحام ذلك المكان القاتل.
ونحن في غرفة المقاطيع كنا كل واحدة على حدا غارقة في خوفها وأفكارها، وبينما تيم الصغير يعدَّ الانفجارات على أصابعه وكأنه يعدُّ معها أحلامنا المقتولة، كانت امرأة هنا تندب حظها وتعدّ صواني مؤونة دبس البندورة والمربيات التي فرشتها على سطح دارها صباحاً، وأخرى هناك تذكرت أنها تركت أساورها الذهبية التي ورثتها من أمها في البيت، وأم سامي تنظر لأقدام الأطفال المتسخة وتعد الذبابات الكبيرة التي دخلت بيتها، قالت: “ماذا أفعل الآن بهذه؟”، جملتها هذه جعلتنا ننفجر جميعاً بالضحك، وأما سلوى فهي لا زالت ملتصقة بي ترجوني مع صوت كل انفجار أن أنقذها وأولادها، وأنا أنظر إليها متسائلة عن سبب ثقتها بي وأكتفي بهدهدة طفلتها الوليدة في حضني لأهدأ معها مخاوفي.
بعد ساعات قليلة انتهى كل شيء وعدنا جميعنا إلى بيوتنا بسلام، لكن الحي لم يعد كما كان، فقد تصدعت معظم جدران بيوتنا وتلوثت بالسواد، عاد العم أبو ماهر إلى فراش مرضه حاضناً راديو ببطاريات ليستمع للنشرة الإخبارية ذاتها التي تعود عليها منذ آخر حرب خاضها وانتصر بها، وأما سلوى فهي لازالت تنظر اليّ مستنجدة كلما رأتني وأنا لازلت استغرب ثقتها وأحتاج أن أحضن وليدتها لأصبح أقوى، ولكي نستطيع احتمال كل ساعات بل وسنوات ” الغفلة” التي ألمت، وفق تعبير أبو ماهر. سيلزمنا الكثير من الوقت، سيلزمنا الكثير من السنوات لنحصي آثار الحرائق حولنا ولننظّف سوادها ودخانها السام، سيلزمنا جميعاً الكثير من الوقت لنرتق ما تهتك من أحلامنا الكبيرة ويلزمنا الكثير من الأصابع بعد لنعدّ الأيام في انتظار تحقيق حلم صغير هو أسطوانة غاز: 100، 99… 51، 50، 49 … وسيطول العدّ.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”