بيروت – سلمى مصطفى
“ماذا تبقى كي يساورنا العجب
نمسي ونصبح والفظائع ترتكب
ماذا سنفعل كي نغادر قهرنا
يا أرض قومي .. إن طفلا يغتصب”*
انشغل الرأي العام العربي وفي لبنان وسورية على وجه الخصوص بقضية الإعتداء والاغتصاب الجماعي لطفل سوري- لبناني يقيم في بلدة سحمر البقاعية، وتصاعد الغضب في البلدين على خلفية هذا العمل الشنيع.
الطفل السوري/ اللبناني محمد لم يتجاوز الثالثة عشر من عمره يعمل في معصرة زيتون بعد قراره إعالة أمه وأخته، ويعيش مع والدته اللبنانية فاطمة صبح المنفصلة عن والده السوري، وتمتهن بيع الخضار في بقالية سبيلاً للعيش. تعرض الطفل لعمليات اعتداء واغتصاب جنسي من قبل ثمانية وحوش بشرية على مدى عامين، لم يستطع طيلة هذه المدة أن ينطق بكلمة واحدة خوفاً من التهديدات المستمرة التي كان يتلقاها. الوحوش الثمانية من دائرة أقرباء الأم، لم يخطر على بالها أن يقترف هؤلاء ما اقترفوه.
لم ينجح الجناة بإخفاء فعلتهم بعد أن نشب خلاف فيما بينهم، دفع بأحدهم الى الكشف عن الجريمة، للإنتقام من شركائه، إلى نشر مقطع فيديو مصور يوثق اعتداءً جنسياً على الطفل، ويعكس لحظات الرعب التي عاشها الفتى السوري- اللبناني أثناء الإعتداء عليه.
كيف يختفي صوت الضحايا؟
كان صمت محمد ثقيلاً على روحه وجسده المدمى. مرت سنتان على اغتصابه المتكرر، تعرّض خلالها لترهيب وتهديد:”إذا بتحكي رح نحفر قبرك وندفنك”. هذا الترهيب “الأهلي” كان الوسيلة الوحيدة لاستمرار مسلسل الاعتداء الجنسي على الفتى. لم تتمكن أمه المعتدة بثقتها بأقربائها حيث يعمل عندهم من كشف ماوراء الكدمات وآثار التعذيب السادي على جسده، غارقا في صمته، مضطرا للكذب عليها، متوسلاً إليها في أيام كثيرة ألا يذهب إلى العمل، وإصرارهم على سحبه من منزله، في آلية استعباد استوفت كل شروط سحق العبد، ومن الخوف منه في آن**.
أن تجري عمليات الاغتصاب على الفتى محمد على مدى سنتين دون أن يتمكن من الإفصاح والتحدث بمعاناته لأمه – على الأقل- يثير السؤال المرير، أي رعب وخوف كان يعتصر روحه؟ فتى لخص في تجربته الفردية المريرة واقع الطفولة في مجتمعات الحرب والفوضى والأزمات الاقتصادية، في انفراط عقد أسرة نووية بغياب أحد أعمدته ( الأب)، مترافقا مع شيوع ظاهرة ترك المدرسة لجيل قضت الحرب بآماله أن يكون على مقاعد الدراسة، في غياب مسؤولية دولة تضع في الحسبان إلزامية التعليم ومجانيته – على الأقل للفئات الأكثر ضعفاً وهشاشة اقتصادية- ، غياب مسؤولية دولة تحرص على منع تشغيل الأطفال والأحداث تحت أي ظرف من الظروف، عملياً هو انكشاف يتيح لأي متوحش أو متغول بافتراس كل من حوله، وممن لا سند ولا دعامة معنوية لهم، من أي جهة وصائية قريبة أو بعيدة، تستطيع تلك الطفولة الاستعانة والاحتماء بها. عملياً إعتداء الدولة بالتخلي عن مسؤولياتها الاجتماعية***، تمهيد لهذه الضروب من الاعتداءات.
مسؤولية من هذا النوع من الجرائم؟
ومع كل جريمة تحصل في لبنان غالباً ما يتم الالتفاف على الملف في القضاء وتأمين الغطاء الطائفي والسياسي للمجرمين.
نعم الناس في لبنان لا تثق بالقضاء في لبنان، وسطوة الأحزاب الطائفية فوق أي قانون، ولكن مهما كان القضاء فاسداً، ومهما كان تغاضي تلك الأحزاب عن تجاوزات أعضائها – يحكى عن حصانة حزبية لأحد المعتدين- ، لكن الخطوة الأولى التي لا بد منها تكون في مواجهة الموقف/ الإعتداء، ضمن الدائرة الصغرى( الأم وابنها في حالتنا) وتنظيم جهود الرأي العام بكل الوسائل المتاحة للكشف عن الفاعلين إخباراً وتوثيقاً وبالأسماء والكنى، لمن هم فوق السن القانونية، وتشكيل ثقل اجتماعي ضاغط، وسوار حماية للمعتدى عليه، وصولاً إلى تدخل الجهات الأمنية التي من واجبها القبض على المعتدي. هذه السيرورة الضرورية من شأنها أن تعود بالفتى إلى حياته شبه الإعتيادية.
مؤدى مانهدف إليه هو أولوية مسؤولياتنا بعدم التأخير وكشف الحقيقة قبل أي طرف آخر سواءً كان القضاء او الأحزاب أو الإعلام أو المؤسسات الأمنية.
أمام ثقل فساد الأجهزة الأمنية التي بدت إجراءاتها بطيئة ومتأخرة، ورغم انكشاف هوية المعتدين الثمانية واعتراف الطفل بكل التفاصيل أمام القضاء إلا أن التباطؤ لايزال هو سيد الموقف، في ظل الحديث عن اعتقال شخص واحد من المعتدين، وهذا الأمر أثار حفيظة واسعة خصوصا مع تواتر أخبار عن تدخل الأحزاب وفرض حصانة حزبية.
تراكم جرائم في جريمة واحدة:
غالبا ما تندرج تلك الجرائم في صميم ايديولوجيا التنمر الاجتماعي والفئوي على الفئات المهمشة، أما في لبنان حيث تعتصره أزمة سياسية وإقتصادية ومالية خانقة، فإن تلك الفئات المهمشة وفي مقدمتهم الأطفال لا تشمل اللبنانيين وحسب، بل فئات اللجوء السوري، بحيث لا يمكن اعتبار مثل هذه الجرائم كجرائم اجتماعية تعكس انخفاضاً في المنسوب الأخلاقي والقيمي لقطاع اجتماعي ما، بقدر ما تعكس نفسها كجرائم غير مقطوعة الصلة عن سياقها الاقتصادي والسياسي، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية التي ترمي بثقلها على الجميع. إن أطفال اللجوء السوري يفتقدون اليوم لأدنى شروط الحماية والرعاية الاجتماعية، وتتنوع أساليب الإعتداء عليهم، وسرقة طفولتهم حيث يقتلعون من مدارسهم، في سياق تخلي المنظمات الدولية عن مسؤولياتها، وفي مقدمها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في لبنان، ورمي العبء والمسؤولية على الأهالي، بحيث يبدو قرار الأهل والطفل بترك المدرسة، كما لو أنه قرارهم.
لا بد من الإشارة إلى أهمية الضغط الاجتماعي والاعلامي الإيجابي الذي حرّك القضاءاللبناني، فضلاً عن تطوع كثير من المحامين اللبنانيين للتصدي لهذه القضية.
ويتساءل المرء كيف لعصبة من هؤلاء الأشرار تعتدي على هذا الطفل لولا إحساسهم بغياب الرادع القانوني لفعلتهم.
إن عمالة الأطفال، وهجران التعلم في كنف المدرسة، هي المفتاح الأثيم لكل تلك التجاوزات والاعتداءات المهينة للروح الانسانية ولمعنى الطفولة.
* مقطع من أغنية بعنوان ” طفل يُغتصَب” للشاعر ظافر صالح الصدقة- غناء وألحان سمير أكتع.
** هذا يدحض ويكذب التفسيرات التي تذهب إلى تواطؤ الفتى مع المغتصبين، ورغبته في ممارسة هذا النوع من الجنس، مع معرفتهم أنه مادون سن البلوغ وانعدام الإرادة لمن هم في سنه.
*** تخلي الدولة عن مسؤولياتها الاجتماعية تعبير عن تفرغها إما للنهب وشفط الثروة العامة، أو لكم الأفواه، وعسكرة المجتمع.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”