Search
Close this search box.

العودة الى القضبان

العودة الى القضبان

منى محمد

بسبب أزمة كورونا، اضطررنا جميعاً أن نمكث في منازلنا، باحثين عن بعض الأمان والسلامة، بانتظار انتهاء هذه الجائحة. ورغم أن هذا الحجر بدأ  كيفياً قبل أن تفرضه الحكومة هنا، ورغم أنني في بيتي، مع جوالي ولابتوبي وكل وسائل الراحة المتاحة لي، إلا أن الأمر تحول تدريجياً، إلى سجن، فبدأت لا شعورياً بالبحث عن رفيقاتي في مهجع الإرهاب في سجن عدرا المركزي للنساء.

الإختناق يزيد مع مرور الوقت، والبحث عن مصدر للهواء النقي هاجس جديد، لم أتحرك من مكاني بانتظار التأمين وأن تفتح الزنزانة أبوابها على يد الشرطي أبوعلي كي يجلب لنا الخبز. امتلأ رأسي بأصوات البنات، وقلبي بانقباضات كنتُ أظنني تجاوزتها منذ سنوات.

أنا مسجونة في بيتي بين حيطان آلفها، وقمتُ بتصميم بعض ديكوراتها لكي تكون خاصة بي، أفتح لابتوبي متى شئت وأتحدث إلى من أريد عبر الأنترنت.

هناك لانملك حتى رفاهية الحديث إلى بعضنا في المهاجع الأخرى.

هنا … أنا أطبخ ما أشتهي، لكني وحدي وكأن الملازم قد عاقبني بزنزانة منفردة، صوت العقيد يصرخ وبيده العصا التي يضربنا بها، هل هو هنا في بيتي، يجلس في الصالون الصغير مقابلاً  للشاشة التي أتابع عليها أخبار  العالم؟

ماذا لو عرف أننا نستقبل الرسائل عبر قناة مرح التي تبث الأغاني والإهداءات؟

أطفأت الشاشة وأغلقت اللابتوب وتجمعتُ على سريري، الكلمات في رأسي: “أنت في البيت، وليس في سجن عدرا، أنت بعيدة جداً”. لامقارنة بين الأمرين سوا أنني لاأستطيع الخروج.

كان كل شيء متاحاً في السجن: الأكل والشرب والصداقات والنقاشات غير أنه سجن. كنتُ أظن أن الأمر شخصي وأني عشتُ السجن لوحدي ولكن أصدقاء لي عاشوا السجن تملكتهم نفس المشاعر والأحاسيس التي عايشتها.

يقول صديقي فادي، الخارج حديثاً من سجن حماة المركزي إن الأحاسيس اختلطت لديه أيضاً، فقد قضى هناك في سجن حماة قرابة 3 سنوات، كان السجن في حالة إستعصاء لذا فالجوالات متاحة لمن يريد. الطعام والطبخ المتنوع وتزيين السرير والزاوية المخصصة له متاحة أيضاً، وزيارة الأهل كل إسبوع. لكن مرارة السجن لاتتغير والأيام التي تمضي ونحن نجلس ننتظر.

يضيف فادي: “لقد شممت رائحة السجن العفنة في بيتي، وأصبحتُ أشعر بلاوعي مني، أني هناك أبحث في زوايا المكان عن تغطية لجوالي. تذكرتُ كل شيء، كنتُ أحاول الجلوس في حديقة منزلنا أثناء الحجر كي أبتعد عن التفكير بالسجن. أقف عند الباب أنتظر الدقيقة التي تنتهي فيها ساعات الحجر كي أخرج من سجني هذا”.

هناء أيضاً معتقلة سابقة قضت خمس سنوات في سجن عدرا، وقد خرجت من السجن منذ أكثر من سنتين، ومازالت تعيش في دمشق. تقول هناء: “الحاجز الذي تم وضعه في شارعنا جعلني أعيش كوابيس الإعتقال مجدداً. كنتُ أتعمد الجلوس في الشرفة أنظر الى السماء، كي أبتعد عن فكرة السجن. وأنزل درجات بيتنا ولكني أخاف الخروج كي لايعتقلني الحاجز، لقد أخطأت باسم أختي أكثر من مرة وناديتها باسم صديقتي في الزنزانة والتي مازالت سجينة في عدرا. وقد عادت الكوابيس بأنني أريد الخروج من السجن وهناك قوة كبيرة تمنعني”.

تضيف هناء: “توقفتُ عن الحديث مع أهلي، وكلما سمعتُ صوتاً خارج غرفتي أقف ووجهي للحائط. أنا لا أعرف كيف أشرح هذه المشاعر ولكني أشعر بضيق كبير، أن أُمنع من الخروج من البيت هذا سجن كنتُ أظنني خرجتُ منه”.

لم يقف الأمر عند المعتقلين السابقين، لكن الإحساس بالضيق رافق أيضاً من عاش الحصار في سوريا. وربط الأمر به، حين فُقدت بعض المواد التموينية أو ارتفع ثمنها، وهو محاصر في منطقة جغرافية صغيرة لايستطيع الخروج منها، لتلبية وشراء احتياجاته.

هذا ماشرحه حسام الذي عاش حصار الغوطة لأكثر من عامين، يقول حسام إنه يخطئ في تسمية الحظر بالحصار ولم يحاول تخزين المعلبات والمواد التموينية في منزله، فقد تعود على الإستغناء عنها في سنوات مضت.

يضيف عمر الذي عاش حصار مدينة ديرالزور من قبل تنظيم داعش: “عشنا مايشبه الحظر ونحنُ نبحث عن أبسط متطلبات الحياة من طعام وماء، خروجنا إلى الشارع كان قليلاً بسبب الوهن والتعب وفقدان الوزن لكثير منا”.

يقول عمر: “إن التكافل الذي يعيشه العالم اليوم في ظل سيطرة فيروس كورونا، لم نشاهده حين كنا نموت في سوريا تحت ظل الحصار في ديرالزور أو مناطق سوريا الأخرى التي كانت محاصرة، لكن الشعب كان يعيش أجمل حالات الترابط. ورغم اختلاف الكثير من الأشياء بين الاعتقال والحصار السوريين من ناحية وبين الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي من ناحية أخرى، لكن الحرية في الخروج للشارع والذهاب الى المطاعم والمقاهي التي أصبحت مفقودة جعلت كل شيء يعود بنا إلى ذكرياتنا التي عشناها سابقاً وبقيت  تسكننا نحن السوريين الذين عشنا كل أنواع الوجع”.

مقاربة قد لا يشعر بها سوى أولئك الذين عاشوا تجربة السجن أو الحصار، لكن تجربة الحجر صعبة على الجميع، ليس نفسياً فقط، بل اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، فمن المؤكد أن العالم قبل كورونا سيختلف عنه بعد كورونا… هذا إذا انتهى كورونا.

اللوحة للفنان “اسماعيل حلو”

خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »