منتهى شريف
صوت صرير البوابة الخارجية أيقظ القط النائم في عتبة الدار وكسر جمود المكان، وحدها الريح كانت تسكن هناك، تبعثر أوراق الدالية وتهين الأشجار الهرمة.
مشينا بضع خطوات في الممر المهمل المليء بالأعشاب والحجارة حتى وصلنا إلى باب البيت
وما أن طرقناه حتى تناثر الغبار المتراكم عليه وانتفض جسده الخشبي المتهالك.
من شقوقه الكثيرة رأيناها وهي تحاول النهوض بجسدها الهرم بتثاقلٍ عن فراشها الذي التصق بالأرضية البيتونية الرطبة.
ثوبها الطويل الذي بدا واسعاً على جسدها النحيل جعلها تبدو كشبح، وما أن اقتربت لتفتح لنا الباب حتى وصل لأسماعنا صوت أنفاسها المتعبة قبل أن تقف أمامنا بكامل عجزها.
عيناها امتلأت بالدهشة من زيارتنا المفاجئة ولعل إلقاء التحية عليها من بعيد هو أكثر ما أثار حفيظتها، فهي التي قلما يزورها أحد، كانت تحتاج أن تمد يدها الباردة وتسلم علينا لتشعر بوجودها وربما تحتاج أن نحضنها كي ندفأ صقيع وحشتها .
قد يكون لهذا الوضع الحالي الصعب لغة ومعايير يصعب على عجوز مثلها تفهمها، فالتنبيهات بعدم المصافحة وترك مسافة أمان بين البشر أمر غريب، يصعب عليها استيعابه. وحيث أنها فقدت كل وسائل الاتصال مع العالم الخارجي منذ بعض الوقت فهي لم تسمع بعد بذلك الفيروس الجديد.
اقتربت زميلتنا منها وقدمت لها تلك الهدية البسيطة، التي أرسلتها لها نساء متعاطفات من بلاد بعيدة بمناسبة عيد الأم، ثم وضعتها إلى جانب الباب قائلة: “كل عام وأنت بخير”.
بعينيها الضيقة نظرت أم بيان إلينا وهزت رأسها متنهدة وبدأت خيالات أبنائها تحاصرها متسائلة كم من السنوات مرت عليها دون ان تحتفل بعيد الأم وكم عيد مضى عليها دون ان ترى أبنائها يدخلون عليها ويقولون لها: “كل عام وأنت بخير”.
كانت مثل الكثير من الأمهات التي سلمت أبنائها لهجرة قسرية، فسافروا تباعاً إلى حيث شاءت لهم الاقدار ليستقروا موزعين ببلاد وقارات مختلفة.
ثابرت على الدعاء لهم مؤكدة لنفسها انهم سيكونون بخير كلما ابتعدوا أكثر، وان أمانهم أهم من بقائهم بجانبها، ومستقبلهم أهم من كل تلك الأشواق والعواطف التي تغلي بمرجل روحها.
ومع كل وداع كانت تتظاهر بالقوة وترفض أن تُظهر ضعفها وتتحامل على نفسها جاهدة، لكن الزمن الحقيقي توقف بالنسبة إليها ليلة سفر جلال، أصغر أبنائها.
كان سفره مفاجئاً ولم يتسن له أن يودعها بعد أن اضطر للرحيل بين ليلة وضحاها قبل أن يُساق للخدمة الإلزامية، فبقيت وحيدة تعد السنوات والشهور والأيام إلى أن تعب قلبها فأغلقت الروزنامة، تاركة القدر يكتب على وجهها أخاديد وحفر.
أشارت بأصبعها متنهدة للحائط المعلق عليه صور أولادها الأربعة؛ كانوا بكامل أناقتهم معلقين هناك ينظرون مبتسمين لها وهي تتلاشى أمامهم كل يوم.
سألتها بفضول إذا كانوا يتصلون بها فأجابت: ” أول شي كانوا يحكوا كثير بس بعدين تعودوا وبالأخير صاروا ينسوا …”
صمتت قليلا، ثم تابعت:”المهم يكونو بخير ومايكون صاير معهن شي”.
تنهدت وهي تمسح عينيها وبدت كأنها نسيت وجودنا على بابها، اقتربت القطة منها وبدأت تموء
فراحت تضع لها بعض الطعام.
ناولناها الكيس الثاني المليء بالمنظفات والمعقمات لكنها لم تلتفت وأكملت إطعام قطتها دون أي اكتراث وعندما بدأت زميلتنا بتلاوة بعض النصائح عليها حول ضرورة استخدام المعقمات وتنظيف يديها جيداً لتجنب العدوى، ابتسمت العجوز نصف ابتسامة وتابعت مداعبة قطتها.
عندئذ اقتربتُ منها بضع خطوات وبيدي رسالة، ما أن لَمحتها حتى تَجمدت العجوز مكانها.
كانت الرسالة مكتوبة بخط اليد، أرسلتها أمهات من بلاد بعيدة بمناسبة عيد الأم خصيصاً لأمهات منطقتنا اللواتي اتعبتهن الحرب، وكانت محملة بجمل وعبارات مفعمة بالمحبة والأمنيات الطيبة.
فتحت ام بيان عينيها على وسعهما وحثت الخطى نحوي وأخذت الرسالة من يدي قبل ان تسمع مني أي كلمة عن اسم المُرسِل ودون ان تترك لي فرصة شرح الأمر لها ….
بدأت تتفحص الرسالة بكامل حواسها وراحت تحضنها وهي ترتعش من الفرح.
اقتربت لأوضح لها عن المُرسِل وعن فكر ة الرسالة، لكنها قاطعتني مبتسمة وعينيها تملأها الفرحة: “بعرف! هذه من ابني جلال “.
ضمتها وراحت تَشُمها بقوة مستحضرة رائحة ولدها وبدأت تغني اغنية مليئة بالشوق…
أشارت لي بأصبعها، فاقتربت منها وقالت:” اقري لي يابنتي شو كاتب، لأني مابعرف إقرا”
أمسكتُ الرسالة ويدي ترتجف حاولت ان استجمع كل شجاعتي، وبدأت القراءة :
“أمي الحبيبة انا مشتاق لك كثيراً…”
سأعود قريباً، اهتمي بنفسك وانتظريني…
ابنك المحب”.
علت وجوه أصدقائي بالفريق التطوعي الدهشة وهم يستمعون مستغربين لقراءتي، لكني اغمضت عيني بارتياح لحظة رأيت عينيها تشع بالأمل، بعد أن أشرق فجأة داخلها ذلك التوق للحياة.
غادرنا بيت ام بيان ولسان حالنا يقول كم من الأمهات الوحيدات هنا يقتلهن الانتظار؟
انتظار لأبناء صاروا في عالم مختلف، شغلتهم تفاصيله، انتظار لمن باتوا بعداد المفقودين وما من خبر يقين عنهم، انتظار ليد دافئة وكلمات بسيطة تطفئ لوعة الحنين ووجعه.
منذ ذلك الحين اعتدت أن أزور أم بيان لأطمئن عليها، نتحدث عن كل شيء، عن ذكرياتها الجميلة مع أبنائها، عن شوقها لهم، وأستمع لأغانيها المليئة بالشوق وهي تدندنها، و في كل مرة وقبل أن أغادر منزلها، وبشكل سرّي، أقترب منها وأقدم لها رسالة جديدة.
اللوحة للفنان “أسعد فرزت”
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”