المحامية رهادة عبدوش
تلتقي اليوم هدى أبو عسلي مع زهرة عزو وناديا الجمال وآلاف لم يذكرهنّ الإعلام ولا يمكن حصرهن من محافظات سورية مختلفة ومتنوعة إجتماعياً ودينياً ومذهبياً، مجتمعة على قتل النساء بحجّة الشرف، لكن لغايات أخرى لم يأخذ بها الكثير من القضاة الذين اتفقوا على تكييف الجرم بما يتوافق مع المادة 548 لتخفف العقوبة عن القاتل أو تعفي عنه نهائياً.
تلتقي تلك النساء لتعود قصصهن إلى العلن، فقد قُتلت هدى لأنها أحبت شاباً من غير دينها وتزوجته. وقُتلت زهرة لأنها تزوجت قريبها بالرغم من احتفال الأهل بزواجها ومسامحتهم لها، وقُتلت ناديا بحجة أخلاقية…
جميعهن قتلن على يد أخوتهن أو أزواجهن أو آبائهن حرّاس الشرف والسمعة الحسنة. لكن “لمعان”، وهي إحدى النساء اللواتي هددن بالقتل بحجة الشرف تتحدث عن أسباب أخرى، تقول: “لقد هددني أخي بالقتل إن لم أعد إلى زوجي الذي يضربني كل يوم، فزوجته الأخرى لا تريد امرأة أخرى في البيت، ولا يسمح لي بالرغم من وجود أولادي الثلاثة بأن أعيش ببيت لوحدي معهم، إما القتل على يد أخي أو الموت بالتعذيب اليومي على يد زوجي”. وتحكي سما عن تحرّش أخيها الأصغر بها وتهديده لها كل يوم بقتلها بحجة الشرف: “يقول لي إن أخبرت أبي بشيء سأقتلك كما قُتِلت عمّتك وسأقول لأبي أني رأيتك مع شاب بوضعية مريبة”.
تتنازل كارلا وهيفا عن حقهما بالإرث كيلا تقتلا على يد أخوتهن الذكور، وتعطي هبة كل ما يأتيها من مال لأخيها الذي يشغّلها بالدعارة وإلا سيقتلها دفاعاً عن الشرف.
((لمعان وكارلا وسما نساء التجأن إلى مراكز العنف الأسري))
تنبع أهمية إلغاء المادة 548 من قانون العقوبات السوري من نقطتين؛ أولهما أنّه قد تمّ إلغاء المادّة الوحيدة التي تخفف من العقوبة لقاتل بحسب الجنس، فالقاتل يجب أن يكون ذكراً والمقتولة أنثى حصراً، فلا يمكن الاستفادة منها إلا الذكر فالمرأة التي تقتل ذكراً بحجة الدفاع عن الشرف (بحسب مفهوم القانون للشرف) –أي قتل الأخ أو الإبن أو الزوج أو الأب لأنهم أقاموا علاقة جنسية مع أحد ما- لا تستفيد من هذه المادّة بل تعاقب لأنّ الشرف متعلق بها فقط وليس بالرجل.
أما النقطة الثانية فإن إلغاء هذه المادة خطوة هامّة لإلغاء مفهوم الشرف المرتبط بالأنثى وبالعلاقة الجنسية تحديداً على الأقل في القانون. فلا يستفيد من المادّة من يقتل الأنثى التي تزوّر أو التي تسرق أو التي تعتدي على ملكية الدولة أو تهرّب الآثار بل فقط المرأة التي تقوم بعلاقةٍ جنسية، أو التي يشتبه أنها تقوم بعلاقة أو التي تلوّث سمعة العائلة جنسياً (الزواج من غير طائفة أو دين أو دون إرادة الأهل).
ربما هو مفهوم يحتاج لفلسفة مجتمع بل مجتمعات شرقية وغربية، بدأت عندما عرف الرجل سطوته العضلية واستطاع أن يضمّ النساء إلى ملكه فبعد أن كان الله أنثى وكان للمرأة سطوتها وقوّتها – كما تحكي قصص التاريخ عن عشتار الآلهة المرأة المعبودة منذ آلاف السنين قبل وجود الديانات السماوية – تحوّل إلى ذكر مع وجود الديانات الإبراهيمية، ومن ثمّ تحوّل ذلك الذكر إلى مالك كل شيء وتلك المرأة تابعاً لا حول لها ولا قوّة. تغيّر التاريخ وتغيّرت المجتمعات والقوانين وبقيت في بلادنا قوانين تحمي الشرف المرتبط بالجنس والعلاقة الجنسية.
كانت المادة (548) تعطي العذر المحل لمن “فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر، فأقدم على قتلها أو إيذائها أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد”.
شروطها: المفاجأة، من غير عمد، وجود شهود.
وهذه الشروط من الصعوبة تواجدها. لكن الجرائم التي كيّفها القضاة على هذا الأساس لا تعدّ ولا تحصى، فكم من نساء قتلن بسبب شكوك وهمية بعلاقة حب وليست علاقة جنسية أو قتلن لأنهن طالبن بميراثهن أو طالبن بحقّ من حقوقهن أو هربن من العنف بكافة أنواعه ومنه الاستغلال الجنسي. واستفاد القاتل من إسقاط الحق الشخصي من ورثة المقتولة و من عذر مخفف أو محل من العقوبة.
وفي القانون تعرّف الأعذار المحلة بأنها التي تعفي الجاني من كل عقاب إذا توافرت شروطها فيه، لكنها لاتؤثر في قيام الجريمة ولا تنفي المسؤولية الجزائية، مثل المادة 548. أما الأعذار المخففة فهي التي تخفف العقوبة على الجاني الذي تتوافر فيه، وهي نوعان:
- الأعذار المخففة العامة: ويتسع نطاقها لجميع الجرائم، بمعنى أنه يستفيد منها الجاني إذا توافرت فيه مهما كانت جريمته، وهي في القانون السوري: الدافع الشريف، العته، التسمم بالمسكرات أو المخدرات الناتج من قوة قاهرة أو حدث طارئ والإثارة أي ثورة الغضب الشديد، والقُصّر (الأحداث الذين أتموا السابعة ولم يتموا الثامنة عشرة من عمرهم).
- الأعذار المخففة الخاصة: وهي الأعذار التي يستفيد منها الجاني إذا توافرت شروطها فيه ونص القانون عليها صراحة، ومثالها في القانون السوري: العذر المخفف الذي يُمنح للمرأة التي تقدم على قتل وليدها الذي حملت به سفاحاً اتقاءً للعار، تعاقب بخمس سنوات.
- و بعد سلسلة مطالبات على مدى عقود كان أبرزها عام 2005 عندما بدأت حملة إقليمية شاركت بها سورية من خلال مرصد نساء سورية بالتعاون مع تجمع سوريات، الذي رصد عدد الجرائم المرتكبة تحت هذه الحجة وعدد الجرائم التي كيّفت من القاضي ليستفيد القاتل بتواطؤ مجتمعي من هذه المادة والتي لا تنطبق شروطها على 99% من الجرائم التي أعتبرت دفاعاً عن الشرف، ليستفيد القاتل من العذر المحل أو المخفف. تمّ إلغاء هذه الفقرة بالمرسوم رقم 37 عام 2009 لتصبح المادة:
- “يستفيد من العذر المخفف من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنى المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلها أو إيذائها أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد على ألاّ تقل العقوبة عن الحبس مدة سنتين في القتل”.
بالرعم من الأصوات الذكورية المتخوّفة من إلغاء المادّة والتي صرّح بها علانية أحد أعضاء مجلس الشعب أثناء الملتقى الوطني لإلغاء جريمة الشرف بقوله: “ألا تخشون من أن تسرح نساؤنا في الشوارع وتقيم علاقات لا أخلاقية إن تمّ إلغاء هذه المادّة؟”
- وفي عام 2011 أصدر المرسوم رقم /1/ لعام 2011 قضى بتعديل المادة 548 لتصبح العقوبة خمس إلى سبع سنوات.
واليوم تمّ إلغائها نهائياً في المرسوم رقم 2 عام 2020 خصوصاً بعد زيادة الجرائم المرتكبة بحق النساء في النزاع المسلّح في سورية ومنها قتل بعض النساء اللواتي خرجن من السجون (اعتقال أو خطف) بحجة تلويث الشرف، واستخدام النساء ورقة للضغط من خلال اعتبارها شرف للعائلة، والتلاعب القضائي في تكييف هذه الجريمة لحماية الذكورة. لعلّ القانون بداية لتغيير اجتماعي لمفهوم الشرف، ولبنةً لإلغاء المواد التمييزية بحسب الجنس في قانون العقوبات السوري كجرائم الزنا والإغتصاب والسفاح، وقانون الجنسية.
بالتأكيد لن تعود هدى وناديا وزهرة إلى الحياة مرّة أخرى، لكن نأمل أن تعيش حفيداتهن دون سطوة قوانين تتغيّر بحسب الجنس.
اللوحة للفنان “أنس سلامة”
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”