كريمة السعيد
لم أكن أتوقع أن يأتي يوم أبدو فيه كحكيمة، وأن يظهر وسواسي القهري* وشخصيتي المهوسة بالتنظيف والتعقيم كنمط حياة صحي وآمن، أن تصبح مقاطعتي لوسائل النقل العامة نهجاً، وهدري وإنفاقي غير المتوازن على مواد التطهير و التعقيم والتنظيف أمراً ضرورياً لا يقبل النقاش، يمكن القول أن فايروس كورونا غير الكثير من حولي وبعبارة أدق حسّن الأشياء من حولي، دون أن يغير حقاً أو يضيف جديداً ما لنمط حياتي، فجأة تغير كل شيء من حولي، يداي المتشققتان بفعل الصداقة مع عائلة (الكلور والفلاش ومساحيق الغسيل وسائل الجلي، والكولونيا) تبدوان لي اليوم كمصدر فخر ومبعث أمان، وفجأة أيضاً اختفت الأصوات المنتقدة لي في محيطي تجاه هوس تعقيم مسكات الأبواب و تفادي لمسي أزار المصاعد باليد وتجنب التماس مع الأبواب و الجدران وحتى الأشخاص، كل ذلك صار طبيعياً ومطلوباً، في حين أنها كانت تصرفات تلقائية ولاشعورية أقوم بها، كان يتفهمها فقط مرضى الوسواس القهري، ولكنها اليوم طقس جماعي في زمن الكورونا.
بطريقة أو بأخرى وعلى مذهب النصف الممتلئ من الكأس جعل هذا الفايروس الصغير والذي بالكاد يرى عبر العدسات المكبرة، هذا الكوكب أكثر نظافة، وأقل تلوثاً، تراجعت الانبعاثات الكربونية بعد إغلاق ملايين المعامل حول العالم، وخفض استهلاك الوقود لصالح المعقمات والكحول، وهناك ما يشبه حملة نظافة عالمية، طالت المدارس والدوائر الحكومية ووسائل النقل وكل مرافق الحياة العامة في كل مكان، وأينما ذهبت تعبق في أنفي روائح مواد التنظيف و التطهير مضاهية في روعتها رائحة الربيع والعشب الندي في صباح هذا اليوم (الحادي و العشرين من آذار)،حتى أن أجمل هدية قد تعبر فيها بحب عن تقديرك لأمك قد تكون عبوة كولونيا غنية بالكحول، هذا إن وجدتها.
فعل الكورونا بسكان الأرض ما لم تكن لتفعله مئات الحملات الإعلامية وحملات الدعم والمناصرة والحشد لمزيد من عادات النظافة، الجميع يغسل يديه باستمرار، الجميع يغسل كل شيء، يضحكني كثيراً من يتعامل مع هذه العادة بالذات على وكأنها طقس جديد بالمجمل.
الكورونا توج الأمهات على عرش العالمية، جعل الأم ملكة على هذا العالم، لمجرد أن تكون ربة منزل هذا كاف، فالبيت أصبح العالم كله، لا مدارس، لا مكاتب، لا مطاعم، لا مقاهي، لا نوادي، لا مساجد، لا كنائس لا شيء سوى هذا البيت.
يريحني أن نمط حياتي المنعزل بطبيعة حياتي الشخصية المائلة للهدوء و الوحدة و العزف المنفرد يطلق عليها حجر صحي، بات مفروضاً على الجميع بل وهو اللقاح الوحيد حتى الآن، تريحني المسافات الآمنة الاجتماعية، الواجب الحفاظ عليها بين الأفراد حتى المتحابين منهم، ويسقط عني حرج أن أكون غير ودودة بعد أن أوقف البشر أياديهم للمصافحة وبطبيعة الحال التقبيل المقيت الذي لا أعرف سببه حقيقي إذا استثنينا أيادي الأمهات في هذا اليوم فقط.
كم سيبدو جميلاً أن يكف أطفالك عن التذمر من “طبخ البيت” لأن ببساطة لن يكون متاحاً بعد الآن تناول الوجبات السريعة، بعد قرارات حكومية مشجعة على ذلك وفي ظل امتثال الأمهات الصارم لحماية أطفالهن.
شيء واحد فقط أظنه يؤرق الأمهات، ويكاد يكون الشيء الطارئ الوحيد الذي سيضيفه كورونا فايروس لعام 2020بالنسبة لي، هو مقدار تحمل المرأة فينا لبقاء الزوج والأطفال على مدار الأربع و العشرين ساعة، وستكون سيئة الحظ من تمتلك زوجاً يتدخل في كل صغيرة وكبيرة تقع عليها عينه في المنزل، لذلك ربما هي فرصة لتطبيق العدالة و المساواة بين الجنسين والتي ناضل من أجلها نسويات كثر حول العالم للكف عن إلصاق دور أعمال المنزل بالنساء ودعوة الرجل للمشاركة وتمكينه من ذلك أيضاً، لكن دون ضغط، تقول الدراسات أن الكورونا الذي فرض حجرا صحيا في المنزل قد يتسبب بأبعد من الالتهاب الرئوي بل قد يفكك أسر، حيث هناك ارتفاع في حالات الطلاق بين الأزواج الصينين، يعني باختصار لم يعد هناك ساعات هدوء ساعات لك سيدتي، ستكونين في دوام مكثف وعمل إضافي غير قابل لأخذ إجازات حتى ساعية، وهذا لفترة عصية على التنبؤ.
لكن حتى في هذه ثمة الحجر العائلي جانب مشرق، ربما تبدؤون بالتعرف على بعض من جديد كعائلة بعد أن فرقت مطحنة العمل اليومية بين المرء وزوجه وابنه.
وبعيداً عن دوامة الوساوس و الشكوك القهرية ومخاوفي التي أعيها، ومن منظور أوسع قليلاً في مديح الكورونا أشعر أن هذا الفايروس وحد البشر بطريقة لم تحدث من قبل، الجميع متكاتف، ومتضامن مع الجميع، ضد هذا الفايروس تمنيات بالشفاء للمصابين، احتفاء بالمتعافين، مشاركة لتجاربهم، نصائح ودعوات ونكات أينما كان عبر العالم الافتراضي. أما في العالم الواقعي فقد حطم كورونا الحدود بين الدول رغم تعلية الأسوار، أثبت كورونا أنه ليس فايروساً صينياً أو إسبانياً أو إيرانياً أو إيطالياً أو فرنسياً، ليس آسيوياً و لا أوروبياً، لا بوذياً ولا سنياً ولا شيعياً ولا كاثوليكياً ولا بيزنطياً، لا يميني و لا يساري، لا شرقياً ولا غربياً، الجميع متساوون أمامه، نبدو في مواجهته كبشر فقط، ننتمي لطائفة واحدة على هذا الكوكب هي طائفة الإنسانية، شيئا مهما يجمعنا هو آدميتنا بغض النظر عن الدين أو العرق أو اللون أو التيار السياسي.
الكورونا -وللأسف الشديد- أظهر شكلاً آخر للموت الجماعي كتوابيت إيطاليا، شكل يحظى بمبالاة أكثر من موت السوريون الذي بات خبرا يوميا في نشرات الأخبار لا أكثر، بل إن الكورونا فعل أكثر من ذلك، لقد حول آلاف السياح للاجئين فجأة بعد حظر السفر، وتعليق رحلات الطيران بين كثير من العواصم، في مديح الكورونا تطول القائمة، وتضيق المساحة، حتى يكاد هذا الفايروس ليشترك معنا نحن النسويات في حملاتنا المطالبة بكسر الصورة النمطية التي تجعل من المنزل مكاناً أكثر ارتباطاً بالسيدات فقط، الكورونا كسر الصورة النمطية بالفعل، وألزم الرجل بالبقاء في المنزل لقد ساوى الفايروس بين الجنسين وجعلهما ينتميان لمكان واحد بدرجة متساوية وعلى نحو فريد هو البيت. ولن تبقى فيروز تستجدي في أغنيتها (خليك بالبيت) بقاءه منذ اليوم سيكون “خليك بالبيت” أشبه بلقاح وربما ترفعين شعارا معاكساً بعد فترة من يدري!
*هو نوع من الاضطرابات المرتبطة بالقلق (Anxiety)، تتميز بافكار ومخاوف غير منطقية (وسواسية) تؤدي الى تصرفات قهرية واضطرابات فكرية، مما تسبب للشخص تكرار العمل الذي قام به مرة أخرى .
2 Responses
جميل كريمة مقاربة الجائحة العالمية بآثارها الايجابية على مبدأ و الضد يظهر حسنه الضد ولا يسعنا سوى ان نقول الكورنا تاج على رؤوس المرضى لا يراه سوى الأصحاء
شكرا لتفهمك لطبيعة النص الإشكالي والمتناقض ربما .. ونرجو مرورك الجميل دائما