سلوى زكزك
لطالما ارتبطت الأمومة بنظرة نمطية معممة، تصف الأمهات بالعاطفيات حتى درجة الهشاشة، ضعيفات وغير قادرات على اتخاذ أية قرارات وخاصة ما يتعلق بالأطفال والأسرة.
لم يتوقف الأمر عند التوصيف، بل تعداه للمطالبة بتعميم هذه الصورة والتأكيد عليها، مما حصر الأمهات في نفق محصن اسمه الأمومة، وعليهن الالتزام بشروطه وإلا صنفن وكأنهن بلا قلب، أو متعسفات، أو متوحشات، أو خارجات عن السرب ومخالفات للأعراف.
ذات يوم وفي الأيام الأولى لأمومتي أخذتني أمي جانبا، وقالت لي: أنت غير عاطفية تجاه ابنتك ؟؟؟ كانت تريدني أن أكرر عبارات محددة لطفلتي التي اختزلت حب العالم كله بالنسبة لي، (تقبريني) مثلا! عبارة أخاف منها، تدفعني للتساؤل لماذا تريد ابنتي دفني؟ ومن سيبقى لها بعدي؟ كنت أحادث ابنتي وأنا أرضعها وكأنها صديقتي، لكن أمي زجرتني قائلة بأنني أحرم طفلتي من حرارة الضم وأنا أشتت انتباهها بحديثي الفارغ.
تقول نهاد بأن أمها المتفانية في خدمة عائلتها، لم تنادها بحبيبتي يوما كما جميع أبنائها، وحين صارحت نهاد أمها بذلك عارضة عليها نم
اذج من أمهات زميلاتها بالمدرسة، أجابت أم نهاد: أنا لا أعرف الحب عبر الكلمات! وأردفت الأم قائلة أنا أحبكم بكل التفاصيل التي احققها لكم وتعجبكم وتسعدون بها.
حتى تهاني عيد الأم تتكرر بصورة تقزّم دور المرأة، تتكون الهدايا غالباً من طناجر وصحون وملابس رسمية، وعلى الأم أن تتفرغ للطبخ وإعداد المائدة والحلويات ليومين أو أكثر تحضيراً للحفلة العظيمة التي ستدور تفاصيلها عند قدوم الجميع، أبناء وبنات وأحفاد وحفيدات، ينقضي اليوم ممتلئاً بالتعب، والأم تجر جسدها بتثاقل من شدة الإعياء، وفي صبيحة اليوم التالي، ترتب الهدايا في الخزانة أو على السقيفة وتقضي يومها نائمة لتسترد قوتها.
تقول ريما: إن أمها اتصلت بها بشكل خاص وطلبت منها أن تكون عيدية هذا العام بعيد الأم مختلفة، طلبت بدل الهدايا التي ملت منها وتراكمت عندها اشتراكاً برحلة لمدة ثلاثة أيام مع صديقاتها، وافقت ريما ورحبت بالفكرة وناقشت إخوتها ورحبوا جميعا بالفكرة! وكان للأم ما أرادت، لكن العائلة الكبيرة حولت الخبر إلى فضيحة، وتداول أفرادها الحدث الجلل كالتالي: تركت أولادها وبناتها في يوم عيد الأم لتقضي وقتها في رحلة مع صديقاتها؟ قالوا إنها بلا قلب، ولا تحب عائلتها، لابل أكدوا أنها تتهرب حتى من رؤية أفراد عائلتها، في ذلك اليوم المقدس، مع أن ابنتيها وابنها يضعون أبناءهم عندها كل يوم حين ذهابهم للعمل، أي أنها تراهم كل يوم ولا تتهرب لا من مسؤوليتها تجاههم ولا من رؤيتهم.
الأمومة الهدف الوحيد للزواج !!يحاصر المجتمع الشابات اللاتي تجاوزن سن الثلاثين، يتدخل الجميع في خياراتهن، متى ستصبحن أمهات؟ ترد رولا قائلة: لا يهمني أن أصبح أما وأنجب الأولاد، ما يهمني أن أكون سعيدة في حياتي برفقة رجل يحبني وأتشارك معه الحياة، تبكي أمها بشدة، وعمتها تقول لها: المرأة خلقت لتصبح أما أو فلتبق في بيت أهلها لخدمتهم في شيخوختهم، ورولا تصر على رفض العريس لأنها لم تشعر تجاهه بأي تقبّل.
لا يتقبل المجتمع ولا الأهل فكرة تأخر البنات بالزواج، يعتبرون الأطفال دعامة من دعامات حماية المرأة المتزوجة، خوفاً من الطلاق، وخوفا من نعتها بالمسكينة، واقتناعاً بأن العز والقوة مصدرهما الأمومة، في حين أن الكثيرات من النساء وإن فكرن بالطلاق لألف سبب يحجمن عن ذلك من أجل الأولاد، تنقلب المعادلة إذن وتتحول الأمومة من هدف إلى قرار جماعي بالتعذيب وبالظلم غير محدد المدة.
تزوجت غنى في السادسة عشرة من عمرها، زوجها وحيد لأبويه، بعد شهرين من زواجها رافقتها والدة الزوج إلى عيادة الطبيبة النسائية، قالت الأم للطبيبة ابني وحيد وزوجي مريض ونريد أحفاداً يتنعم بهم جدهم قبل وفاته، في الثامنة عشرة حملت غنى بعد علاج بمقويات الإباضة، كان الحمل عبارة عن ستة أجنة، عم الفرح العائلة، وأحيطت غنى بالدلال والاهتمام، وبعد ولادتها بدقائق وفور رؤيتها للأبناء الستة على السرير ملأها الذعر لا الفرح وشعرت برغبة عارمة بالفرار، قالت غنى أريد أن أصبح أما لا مربية في دار للحضانة!
ترتبط الأمومة بفكرة الإعالة، أي أن منطق الحياة أن يرعى الأبناء والبنات أمهاتهم اللواتي أنجبوهم ورعوهم في الصغر وحى الكبر، مسؤولية الأفراد بمن فيهم منا البنات والأبناء تجاه الأكبر سنا هي مسؤولية تعاقدية، بمعنى أنها التزام وواجب، والفرق بين مسؤولية المجتمع والأبناء هو العاطفة التي لا تقوم بمسؤوليتها وحسب، بل تأنسن العلاقة وترمم القسوة، لكن السوريات الآن بعيدات وخاصة في الجغرافيا عن الأبناء والبنات، تفرق السوريون والسوريات في أرض الله الواسعة، وبقيت الأمهات يحرسن الغياب وينتظرن العودة أو اللقاء، من سيربط العرى المفصولة قهرا ببعضها، والأمهات والأبناء عاجزون وعاجزات حتى عن اللقاء ؟
تتغير الظروف العامة، وتختل تفاصيل الحياة، وتبقى الأمومة حلماً ومسؤولية وطريقاً، بعض النساء يحرمن منها كخيار، ويتحولن لصناديق تحمل أجنة زرعت على عجل أو بلا حب، أو لزيادة قوة العمل أو للاتجار بها، وتغرق الأمهات في صلابة الواجب وثقله وضعف الخيارات وتغييب القدرات، العاطفة لا تكفي للنجاة، نجاة الأبناء والبنات ونجاة الأمهات أيضا، فالأطفال متروكون للتعب والعبث في بلاد الحرب والتهجير والترحيل والغربة، يصير الأبناء معيلين والأم تدوس على عاطفتها وتقرر أن العمل بات واجبا على الابن الطفل لتأكل العائلة خبزاً، من يحق له أن يتهم الأمهات بالتوحش والعقوق هنا ؟
والأرحام الجافة تصير تهمة ولعنة، والنسوة يعلكن الشوك فيدمي قلوبهن ويصرخن يا ولدي، والولد بلد، والبلد تئن كما صرخة المخاض، لا أحد يكترث بالصارخة ولا بالصرخة، ولد اليوم ولد، وسُجّل برقم، والأفضل أن يكون رقما مذكرا !!!
المجد للأمهات، المجد للنساء، المجد للرجال، المجد للبنات والأبناء، المجد للحياة حين تعلن أنها وقت للتعب.
One Response
المجد لك سلوى على هذه الكتابة الرائعة