هند سالم*
“ظلت المشكلة دفينة أسيرة الصمت سنوات طوال في أذهان النساء الأمريكيات. وكان هياجا غريبا إحساسا بالسخط وتوقًا شغوفًا ذاك الذي عانت منه النساء في منتصف القرن العشرين في الولايات المتحدة. كان صراعًا خاضته على انفراد كل امرأة من نساء الضواحي، فيما هي ترتب الأسِرْة، أو تتسوق حاجات المنزل، أو تختار ألوانًا متناغمة لأغطية الأثاث، أو تأكل سندويتشات زبدة الفستق مع أبنائها، أو أن تقود الكشافين والكشافات الصغار، أو تستلقي، إلى جانب زوجها في الليل، خائفة أن تطرح حتى على نفسها السؤال الصامت: أهذا كل شيىء”
تستهل بيتي فريدان كتابها “اللغز الأنثوي” بالفقرة السابقة والتي تعبر بها عن قضية هامة كانت تمر بها نساء الطبقة الوسطى بأمريكا في منتصف القرن العشرين؛ وهي تشكيل هوية أنثوية صاغتها السلطة/ السلطات وتبنتها كل مؤسسات المجتمع، هذه الهوية المستندة بالأساس على التمييز واضطهاد النساء الذي كان بمثابة صمام الأمان للرأسمالية، فهذا التمييز يمنح الرجال شعورا زائفا بالتفوق، فالطبقة الحاكمة يمكن أن تستغل الرجال بوحشية وأن تخضعهم لكنها يجب أن تمنحهم فرصة الشعور بالتفوق على شخص يقع في موقع أدنى منهم. لذا كان من الهام تثبيت مواقع الرجال والنساء، ولا يمكننا إغفال السود والفقراء أيضا، وإعطاء كل فئة وطبقة دورا لا يمكن الخروج عنه لتحقيق المصلحة العليا للدولة/الشركة/رأس المال.
تتناول الكاتبة الأمريكية النسوية “بيتي فريدان” في هذا الكتاب الفترة الزمنية التي انسحبت فيها النساء الأمريكيات (وهي تركز على الطبقة الوسطى كما سبق وذكرنا) من المجال العام إلى المجال الخاص/المنزل ليصبحن ربات بيوت وينشغلن بتربية الأطفال وتلبية احتياجات أزواجهن. هذه الفترة التي مثلت قطيعة مع الموجة الأولى التي استمرت ما يقرب من ثمانين عام، حيث بدأت في منتصف القرن التاسع (1840) مع تطور حركة السود بأمريكا حتى بداية القرن العشرين (1920) حين توج نضال النسويات الأوائل بالنجاح بصدور المادة التاسعة عشر من الدستور الأمريكي التي تنص على حق النساء في الاقتراع. وتتساءل “بيتي فريدان” عن العوامل التي دفعت النساء الشابات إلى اختيار الانسحاب من المجال العام ليصبحن ربات بيوت، وهل كان هذا الاختيار هو اختيارهن بالفعل أم دُفعن إليه؟
يتناول الكتاب مسار حياة مجموعة من النساء بعد تخرجهن من الجامعة بحوالي خمسة عشر عام لتسترجع “بيتي” لحظة ماضية، وتعيد قراءتها معهن قراءة جديدة ومختلفة للوقوف على العوامل التي ساهمت في تشكيل إدراكهن واختياراتهن ورغباتهن.
يقع الكتاب في حوالي 524 صفحة، وينقسم إلى 14 فصل بالإضافة الى الخاتمة، ويُعد من الكتب المؤسسة للموجة النسوية الثانية بأمريكا والتي دعت إلى حصول النساء على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وامتدت هذه الموجة من منتصف الستينات حتى نهاية السبعينات لتساهم في تطوير النظرية النسوية، واختراقها لمجالات لم تكن فيها من قبل مثل المجال الأكاديمي.
ترصد الكاتبة في بداية الكتاب المشكلات النفسية التي بدأت تظهر بكثافة لدى نساء الضواحي اللاتي “يتمتعن بالراحة”؛ فلديهن كل الوسائل التي تساعدهن على إنجاز أعمالهن المنزلية من مكنسة كهربائية وغسالة وأدوات تلميع الأرضيات وبالرغم من هذا لا يشعرن بالراحة حتى أن الأطباء النفسيين أطلقوا على مشاكلهن النفسية والعصبية “المشكلة التي لا اسم لها” ولم يخطر على بال هؤلاء الأطباء أن المشكلة التي تعاني منها النساء هي الضجر والملل والرتابة من الحياة الفارغة التي يخلفها العمل المنزلي. فالشابات اللاتي ناضلت أمهاتهن لانتزاع الحق في التصويت يمكثن في البيت لتربية أطفالهن، ويكتبن في خانة الوظيفة بكل فخر “ربة منزل” ويلهثن وراء الإعلانات لشراء منتجات منزلية تجعل منهن ربات منزل “مبدعات”، قادرات على إدارة منازلهن “كوني مبدعة واستخدمي عجينة البيتزا الجديدة”، والسؤال هنا كيف يمكن لحفيدات لوسي ستون[i] أن يُسجن داخل منازلهن ويشعرن بالفخر والتحقق؟
ترى “بيتي فريدان” أنه تم إنتاج هوية أنثوية من خلال تصدير ما يسمى “اللغز الأنثوي” فاللغز الأنثوي الذي صاغته جُل المؤسسات الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية (فترة الأربعينات والخمسينات) بسيط وعميق في نفس الوقت، فالنساء الأمريكيات يجب أن يتمتعن بالأنوثة والسحر وألا يقلدن النسويات “آكلات الرجال” فالمرأة يجب أن تكون رقيقة ومثقفة ومطيعة ومتفانية في خدمة أطفالها وزوجها، هذا هو نموذج النساء الذي تحتاج له أمريكا، وهذا هو دور النساء في بناء مجتمعهن.
دور المؤسسات في إنتاج اللغز الأنثوي
لقد تم انتاج هوية أنثوية تقلص هوية النساء الى هوية مُفردة؛ هي أن تصبح ربة المنزل، وأن التحقق الحقيقي هو التحقق الجنسي في إطار علاقات شرعية. فقد أصبح التعليم موجه على أساس الجنس خلال المرحلة الإعدادية والثانوية؛ وتم وضع خطة درس للبنات في المرحلة الإعدادية تحت اسم “الفتاة البارعة” وهو مجموعة من التعليمات حول “فنون المواعدة” وكان هذا نوع من الإدراك المبكر لوظيفتهن الجنسية ولدورهن في الحياة. يستكمل هذا الشكل التعليمي خلال مرحلة الثانوية والجامعة من خلال دروس تُعطى للفتيات/الشابات فقط. ففي إحدى الجامعات تم إدخال مقرر حول الزواج والعائلة، ورفعت واحدة من الجامعات النسائية (التي تفتح أبوابها للنساء فقط والتي انتشرت خلال الفترة التي يتناولها الكتاب) شعار تم ترديده بكثافة فيما بعد “نحن لا نعلم النساء ليكن عالمات، بل نعلمهن ليكن نساء وأمهات” وتم اختصار الشعار إلى WAM (Women And Mothers). هكذا تم صناعة جنسانية خاصة بالنساء تحدد رغباتهن، وأفكارهن، وقرارتهن ورؤيتهن لدورهن الجنسي.
سلطة العلوم الإنسانية على النساء
لقد كان اللغز الانثوي فخا كبيرا للنساء خلال فترتي الأربعينات والخمسينات لأن هذا اللغز يُبث من قِبل وكلاء التعليم وعلم الاجتماع وعلم النفس أنفسهم الذين يفترض بهم أن يكونوا أول أعداء التحيز؛ فحينما يقول فرويد أن كل النساء لديهن عقدة الخصاء، فهن يحسدن الرجال لامتلاكهم قضيب. إذن فالنساء كائنات ناقصات حتى يمتلكن قضيب، ولا يشعرن بالرضا إلا بامتلاك طفل صبي. كيف للنساء في هذه الحالة أن يكذبن فرويد أن ينتقدن نظريته التي نالت شهرة كبيرة بالرغم من أنه تم إنتاجها في زمن محدد وفي بلد بعينه وعلى طبقة واحدة.
ولم يكن علم النفس التحليلي وحده من يتبنى هذه النظرة ففي نفس الفترة كانت المدرسة الوظيفية في علم الاجتماع هي المدرسة السائدة وكانت ترى أن كل عضو في المجتمع له وظيفته المحددة لتكامل هذا المجتمع، فالمجتمع مستقر وثابت ويتكون من وحدات في حالة انسجام، وللحفاظ على انسجامه لابد أن تلتزم كل فئة وطبقة بدورها ووظيفتها، والدور الأساسي للنساء هو الحفاظ على البيت وتربية الأطفال أي بمعنى أوضح دورها ينحصر في المنزل وذلك للحفاظ على انسجام المجتمع الأمريكي!.
فالنساء العاملات هن نساء ملامات طوال الوقت لأنهن يتركن وظيفتهن الأساسية ويلتفتن إلى دور قد يهدد استقرار الأسرة الأمريكية؛ لذا نجد أن الكثير من النساء المتعلمات في هذا الوقت قد تركن أعمالهن لشعورهن بالذنب من إهمال أطفالهن “لقد كنت هنا ولسنوات أستلم أعمالاً مؤقتة وأعمالاً بدوام جزئي، محاولة ترتيب حياتي العملية وفق مصلحة الأولاد المثلى، والآن يبدو كما لو أنني كنت أقوم بأسوأ ما يمكن”[ii] هذه شهادة أوردتها “بيتي فريدان” لأم أمريكية تشعر بالذنب الكبير لأنها عملت بدوام جزئي.
فعلم الاجتماع هو الآخر متورط في صناعة اللغز الأنثوي، فقد تم تدريس كتاب تالكوت بارسونز ،صاحب المدرسة الوظيفية، “تحليل الأدوار الجنسية في البنية الاجتماعية للولايات المتحدة الأمريكية” للطلبة والطالبات وهو من الكتب التي تؤكد على ضرورة بقاء النساء في المنزل. هذا بالإضافة إلى البحوث العديدة التي كانت تكشف عن الاضطرابات التي يسببها عمل النساء. إنها منظومة متكاملة تعمل على تشكيل هوية النساء وحصر أدوارها المتعددة في دور واحد فقط “ربة المنزل”.
الخيار الخاطئ
“لا يفرض لغز ما قبوله. فحتى “يغسل” اللغز الأنثوي أدمغة النساء الأمريكيات من الغايات الإنسانية غير الجنسية لأكثر من خمسة عشر عاما، لابد أنه قد اشبع حاجات حقيقية لدى أولئك اللواتي تمسكن به للأخريات وأولئك اللواتي قبلن به لأنفسهن”[iii]
ما هذه الحاجات الحقيقية التي أشبعها اللغز الأنثوي؟ وكيف وجد مثل هذا الصدى؟
إنها الحاجة للراحة، هذه هي الإجابة التي تقدمها “بيتي فريدان” بتحليل مستفيض في الكتاب؛ فبعد الحرب ووحشتها، وفظاعة القنبلة الذرية، والكساد، وفي مواجهة الشك المخيف، والضخامة الباردة للعالم المتغير، كان المجتمع يبحث عن الراحة والسكون، وليس هناك أفضل من الراحة في فضاء أسري يقوم فيه كل فرد بوظيفته المحددة؛ الرجل للعمل، المرأة للمنزل، الأطفال للدراسة والذهاب للتمارين الرياضية. هنا يصبح الخيار الخطأ هو الخيار الوحيد المتاح.
تنهي “بيتي” كتابها بخاتمة تستعرض فيها تجربتها بتشكيل مجموعة نسوية تنادي بالحقوق الاجتماعية و الاقتصادية لكل النساء بمختلف طبقاتهن وأعراقهن، المجموعة التي كانت نواة الموجة الثانية بأمريكا. الكتاب يُعد من الكتب القيمة والثرية والتي تستعرض أفكار قد تردنا إلي الواقع الذي نعيشه الآن. إنه كتاب لكل النساء والرجال.
* نسوية مصرية ومديرة دار نشر هن – خاص لشبكة المرأة السورية
[i] رائدة نسوية من الموجة الأولى
[ii] – بيتي فريدان: الغموض الأنثوي، ترجمة عبدالله عبد الفضيل، دار الرحبة، ص261
[iii] – بيتي فريدان، مرجع سابق ص243