Search
Close this search box.

اقتلاع

اقتلاع

سنا السلام

بعد معارك ضارية، وتجارب مرة، وآلام شديدة، ذهبت على مضض لطبيبة الأسنان مستسلمة للواقع المر، ألا وهو اقتلاع أحد أسناني. لم يكن الاقتلاع اختيارياً، اجتاحت إبرة التخدير فمي ولم يكن التخدير مركزاً على السن المعني فقط وإنما شمل كل المناطق المحيطة به. ولأن الاقتلاع ليس سهلاً كان التخدير يحتاج لفترة زمنية تعد طويلة جداً بالنسبة للمريض.

الاقتلاع سيكون للجذور وما تحت الجذور هكذا قالت الطبية…

الاقتلاع ليس اختيارياً بل بالإكراه، لذلك صاحبتني رغبة شديدة بالبكاء وشعور بالفقد، وكأن الأمر كارثياً. نعم اقتلاع سني أعادني لذلك اليوم الكريه الذي تم اقتلاعنا فيه، لم يكن الأمر بإرادتنا، كان خارج السيطرة لم يحق لنا التفاوض!!! الطبية قالت لي يفترض أن يكون الأمر اقتلاعاً مباشراً، ولكن يبدو أن السن متشبث، الأمر يحتاج لجروح ودماء لنخرج السن. كانت تتكلم وأنا صامتة مستسلمة لواقع البنج، يهتز رأسي لا غير.

فجأة تابعت كلامها: الأمر سيكون على أجزاء سيخرج السن على أربع مراحل، هكذا خرجنا من أرضنا عبر مراحل من سنوات… أُجبر الكثيرون على الخروج، وكان خروج أرواح البعض بعد ذلك دماراً للجزء الأكبر من أرواحنا ثم جاء دور الجزء الثالث اقتلعت الغوطة وكان ذلك إنذاراً لخروج الجزء الرابع، أخرجنا في نسيان ذلك الشهر الذي زرعت فيه داخل رحم الحياة لم أكن لأصدق يوماً أن تتشاكل لحظات البدايات والنهايات فتكوّن تاريخاً واحداً وتمتزج دموع الولادة مع دموع الانتزاع … آه!!

خرج الجزء الرابع من فمي.

أشعر بالفراغ… أخبرتني صديقاتي أن المكان موحش فارغ.

“هناك فراغ رغم ازدحام كل شيء “كما يقول نجيب محفوظ.

لعلَّ التعايش في مكان غير مكاننا يبدو سهلاً أمام فكرة الموت خارج ذلك المكان، يحاول معظم المهجّرين أن يلحّوا في الدعاء لأن يدفنوا داخل تراب يعرفهم ويعرفونه يحبهم ويحبونه…

لم أكن أدرك صعوبة أن تدفن خارج وطنك (مشاعر مشلخة) إلا اليوم عندما حملت الممرضة سني ورمت به … رمت به.

نعم لم تفكر بأن له قيمة أو يعني لي شيئاً وأنه عاش سنيناً من عمره داخلي وأنه جزء مني. هكذا ببساطة رمت به لا أعرف أين.. ولا كيف..!، عادت بي الذاكرة للدكتور سامي محمود عندما غرقت سفينتهم في عرض بحر اللجوء هناك. أين؟ لا أدري، كيف؟ لا أدري. لا تسألني عن شيء، لكن أود إخبارك أنني دفعت ثمن اقتلاع سني الميت كما دفع د.سامي ثمن حياة ميتة..

بعد ساعات من زوال المخدر اكتشفت أن المخدر زائف وأن الجروح عميقة جداً، وأن إمكانية زرع سن جديد مكلفة وغالية جداً.

عندما اقتُلعنا كانت القوات الروسية هي المشرفة على قوافل التهجير، ولكن لا تنس أن القوات التركية هي التي أشرفت على دخول قوافل التهجير.

أثناء تجارب الزراعة أحضر أحد الأطفال علبة وضع فيها الكثير من التراب وجذور لنبات منزوع، بدت التجربة ناجحة في نظر الأطفال وغرقتُ في ضحك الوهم…

الاقتلاع في طب الأسنان أهون الأوجاع، ولكن الاقتلاع في التجربة الإنسانية أوجع الأوجاع وأدومها.

لنفترض أخيراً أن الطبيبة قررت إعادة السن المقتلع، هل سيلتحم من جديد؟ هل سيعرف جيرانه؟

هل سيعود كما كان؟

هل سيعود كما كان؟

هل سيعود كما كان ؟

مازال الاقتلاع يؤلمني، فالآلام تتكلم ولكن بأحاسيسنا…

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »