ضحى العاشور
بين عشرة آلاف وخمس وثلاثين ألفاً، يتراوح عدد ضحايا مجزرة حماة 1982 هكذا تقول الأرقام! كثيرة هي المناسبات التي مرّ أمامي هذا العدد، في كل مرة كان يعقد لساني ويشلّ عقلي عن التفكير! حتى الآن أعجز عن هضمه أوتفكيكه.
إذ بين العشرة آلاف والخمس والثلاثين ألفاً، ليس فارق ارتياب حسابي بسيط، بينهما هوّة غياب سحيقة ابتلعت عشرين ألف سوري وسورية بينهم صبيان وبنات كانت لهم أحلام وأهل يخافون عليهم ويرتجفون لأنين مرضهم ويخشون عليهم من الحسد والبرد ويحتسبون من كل الشرور عدا أن يفقدوهم في “الثقب الأسود” للوحشية، بينهم رجال ونساء ربما كانوا عشاقاً أو يخططون لمتابعة الدراسة أو الزواج، ربما كانوا يحلمون أن ينفلتوا عن رقابة الأهل لبعض الوقت، مدركين أنهم عندما يعودوا سينالوا عقاباً وتوبيخاً كان يرتسم في مخيلتهم قاسياً وعنيفاً لكنه في النهاية لن يقطّع أجسادهم ويبعثرها في مجاهيل الأرض، بينهم مرضى كانوا ينتظرون بهجة شمس وشفاء، وكبار سن يريدون أن يرووا حكايا عن أحفادهم والكنّات وفي نفوسهم شكوى من ألوان هجر أولاد القلب وألسنتهم لا تكّف عن مناجاه الله أن يُحسن ختامهم، بينهم من باتوا ليلتهم على خلاف وحزن وكل همّهم أن ينجلي الصبح بسماح وارتياح … وبينهم الغيور والناجح والمتعب والخائف والحالم و..و..بينهم ما تعرفه كل أمهات الأرض من أننا ربيناهم كل شبر بـِ (ندر) في بلد يعّمه الخوف والقهر والفقر.
لم يكن معظمهم من الطليعة المقاتلة/ الذراع العسكرية للإخوان المسلمين على ما قرّره النظام آنذاك، مثلما يشيع النظام نفسه اليوم عن سكان المناطق السورية التي يستهدفها قتلاً وتنكيلاً ومجازر. فالكل يعرف أن المقاتلين يهربون عندما يشتد الحصار ويقترب انتصار الخصم.
أين هم؟ أين بقاياهم؟ كيف ماتوا؟ بماذا شعروا؟ هل صرخوا؟ هل تعذبوا؟ بعد كم من الوقت قضوا؟ ما هي كلماتهم الأخيرة؟ هل خافوا؟ هل نادوا بأسماء أحبتهم؟ ترى أكانت لهم وصية أخيرة؟ رغبة لجوجة؟ حاجة حارقة تتخيلها أمّ فتلهج برجاء يحترق: انشاالله ما يكون مات عطشان؟! حتماً كانت لهم مئات الأمنيات، فقد قُصفت أعمارهم قبل أن يتذوقوا حلاوتها…مئات من الأسئلة القاتلة تفتك بنا نحن الذين لم نكن على علاقة مباشرة بالضحايا، فما هو حال أهلهم وذويهم وأحبتهم؟ كيف سهونا عنهم وتناسيناهم كل هذا العمر؟
كان عصيّاً على التصديق أن نسمع حكايات عن أمهاتهم اللواتي يدفعن الغالي والنفيس من أملاكهن ويبعن أساورهن الذهبية وخواتم زواجهن وحتى تلفزيون البيت والبراد و”ماكينة الكبة” ليدفعوها رشوة (لأم أخرى مثلهن!) لكنها زوجة ضابط في الأمن أو مسؤول في سجن تدمر أو سجن صيدنايا لاحقاً، أو لمحام مرتزق يتاجر بآلام الناس، أو قريب فاسد لأحد المسؤولين السلطويين حتى لو كان برتبة رقيب، ليشتروا الوهم بأن أولادهم بخير. في البداية كانت الأمهات يصدقن ” أن مع العسر يسرا” وعسى ولعل يحصلن على ما يهدئ روعهن ويصبّر أرواحهن ولو بكلمة أو إشارة، لكن مع مرور الزمن، كن قد أدمن شراء الوهم، وبتن يتجرعن مرارة الذل والخذلان والخسران ولكنهن لم يجرؤن على قطع شباك الوهم مهما كان واهية ومريرة: لم يكن أمامهن خيار آخر، لقد تُركوا وحيدات في مواجهة الاستبداد الذي بدا متجبراً قاهراً كقدر هستيري!
بين مجزرة حماة وقبلها مجازر في أحياء حلب وجسر الشغور في الثمانينات، وبين المجازر والقتل اليومي في كل سورية اليوم، كان هناك فارق حاسم حسب تصور معظم البشر: هو أن الأولى تمت بصمت مطبق بعيداً عن وسائل الإعلام، أما الأخرى فهي تجري أمام الجميع في عرض مستمر يبدو أنه أصبح فائضاً عن حاجة الناس للتضامن، ما جعلهم يستسلمون دولاً وشعوب أمام هول ما يرون!
منذ أكثر من ثلاثين عاماً، كانت النساء يهرعن (في ساعات السماح بالتجول) إلى المشافي، يقلبن الجثث ويعدن تفحصها عندما تفشلن في التعرف على ملامحها ولا أحد يدري أية مشاعر تتنازعهن: ثمة بريق أمل ألا يجدن المبحوث عنه ما يعزّي باحتمال أنه على قيد الحياة، أو أنه قضى بعذاب وتشويه أقل، وثمة رغبة بأن يكون هو ضالتهن، فينتهي قهرهن بألم كثيف دفعة واحدة.
المشهد نفسه يتكرر الآن: أمهات يتكّومن أمام المشفى (في مخيم فلسطين)، هذه المرة الضحايا لم يكونوا في الثلاجات، أشلاؤهم لم تزل طرية بين الأنقاض، تفتش النساء عن قطعة ثياب لابن أو زوج أو أخت، تبحث عن اليد المبتورة لتعيدها إلى جانب شقيقتها، تلاحق حذاء سبقتها إليه امرأة أخرى لتصرخ “هذا لبنتي نجاح وحق الله” لتستدرك وقد تأكدت أنه مختلف تماماً عن حذاء ابنتها: “أستغفر الله يا ربي عزا هادا مو شَبَه حفاية نجاح”… النسوة هنا يتحلقن حول الركام تتلاطم أصواتهن بين هذيان ونحيب وبسملة وسؤال وصراخ وذهول ورعب من قصف مفاجئ، لكن طمعهن الوحيد أن يجدوا أشلاء موتاهم، لأن اكرام الميت دفنه، ولأن جسده سيظل يستصرخ حتى يعود إلى اكتماله، ولأن جثثاً كثيرة بقيت مرمية في الطرقات تحت حراسة القناصة لتذهب طعاماً تتناهشه كلاب الشوارع، ولأن الموت أرحم من الفقد مائة مرة على ما يقولون!
وبين موجتي المجازر، كانت الأمهات والنساء الأكثر تضرراً، بسبب موت الرجال أو اعتقالهم أو هروبهم أو اختفائهم أو ذهابهم للقتال. رغم أن كثيرات منهن تخفين ودخلن السجن وهربن، لكن معظمهن كان حالهن مثل حال معظم نساء اليوم، يقضين يومهن في البحث عن الزوج والابن والبنت والأخ والأخت في المشافي وبين الجثث وفي الأسر أو الاعتقال. تقول الخبرة البشرية: “أن أمّ الميت تنام وأمّ القتيل (أو الشهيد أو الضحية أو الأسير) لا تنام”، ليس ضميرها ووجدانها فقط من يتعذّبان لمسؤوليتهما عن حمايته حيّاً أو ميتاً، بل تتسمّم كل حياتها، بفعل التفاصيل المرتبطة بفقده: أولاده لا يدرون كيف يجيبون عن مصيره ويكبرون وهم يحملون عار نسبهم، زوجته لن تعرف إن كان عليها أن تنتظره أم تمضي إلى حياتها دونه، أخوته يحتاجون تقاسم الإرث، أقرباءه سيدفعون ثمن شُبهة عدوى مواقفه أو آرائه… فالمفقود في سورية (على عكس كل مفقودي البشرية) يُعتبر مجرماً بعُرف وعنف السلطة التي حكمت بالموت الجماعي والإبادة لسكان منطقة ما.
وحشية المجازر، تجعل الناس تتلمس أجسادها بذعر مرّددة: ما دخلنا! أو يلعن أبو السياسة، لا نحبها! حسناً والسياسة (كل سياسة استبدادية) تكرهكم جميعاً، تحقد عليكم بسبب عجزها عن تسييسكم كما تشاء، تحكم عليكم بالموت والدمار لشبهة معارضتكم، أو فقط (دخلكم) لأنكم بالصدفة أهل أو جيران أو زوّار أراضي أعدائها!
عندما ينفلت جنون الاستبداد، لا أحد بمنأى عن المخاطر، من ينجو من الموت والقتل والاغتصاب والخطف والتشويه ومن كل الشرور، لن يستطيع أن يهرب من ذاكرة مّعذبة بإثم التخاذل عن نجدة الضحايا والصمت على ما جرى وما يجري.
“يا حماة سامحينا” هكذا ردّد المتظاهرون في ذكرى مجزرة حماة بعد ثلاثين عاماً على حدوثها، معظمهم شبان ربما لا يتذكرون مجزرة حماة، لكنهم وهم يعيشيون المجازر اللاحقة، يدركون أن مجزرة حماة كانت المؤسسة والمولدة والحاضنة “لشقيقاتها” و”أولادها” من المجازر وتعميم القتل والتدمير والإبادة كأداة وحيدة لاستمرار السلطة في حكم (سياسة) ما تبقى من الناس! وبهذا المعنى تجعل السلطات موضوع الوقوف ضد المجازر مسألة سياسية. لأنها ببساطة لا تعترف بالإنسان ولا بحقوقه خارج تصنيفها للبشر على أساس عدو يجب سحقه، أو مؤيد ينبغي أن يشارك بالقتل بطريقة ما.
الموقف من المجزرة (أي مجزرة) بما هي اجرام منظم، وبصرف النظر عن مرتكبيها ومبرراتهم وغاياتهم، هو موقف انساني لا سياسي، هو موقف ضد السياسة (سياسة القتل)، موقف يقول للسياسيين من حقي أن أعيش دون أن أحبكم! ينطلق من مبدأ حق الحياة للبشر، وحق الحياة الكريمة الخالية من الحاجة والرعب. هذا الحق الذي يعرفه ويقرّه الحسّ السليم عند البشر والأمهات أولاً اللواتي مهما جرى “تسييس” مشاعرهن، يرددّن: لكنهم أرواح، وليس لأحد أن ينتزع روح انسان! هذا ما يؤمل به وما ينبغي العمل عليه وتعزيزه اليوم وكل يوم، عبر بناء شبكات تضامن اجتماعي وانساني وحقوقي واعلامي (وللنساء دور شديد الفعالية والقدرة على التأثير في هذه المجالات) مع الضحايا والمنكوبين ومتابعة قضاياهم ومصائرهم وشؤونهم اليومية، بانتظار حل سياسي يفضي إلى محاسبة المجرمين وانصاف الضحايا، دون ذلك ستظل تتكرر المجازر وتتوالد في دوامة عنف تهدر حياة الكثيرين وتهدّد مستقبل الناجين منهم الذين لن يحصلوا على راحة ضمائرهم بكلمة: سامحينا.
اللوحات للفنان السوري “خزيمة علواني”
خاص “شبكة المرأة السورية”