Search
Close this search box.

ويتحدثون عن الخيال… مشاهدات مذهلة من مخيم أطمة

ويتحدثون عن الخيال… مشاهدات مذهلة من مخيم أطمة

لميا نحاس*

صحوت على صوت حبات المطر تدغدغ زجاج النافذة، أسرعت بالجلوس وانتابتني حالة من الذعر وأنا أتذكر أيام العاصفة التي مرت علي وأنا بين أهلي في مخيمات النزوح في سورية، مخيمات اطمة، حيث لا شيء يستر أغلب العائلات هناك ويقيها حبات المطر ورياح العاصفة، التي علمت فيما بعد أنهم أطلقوا عليها اسم “هدى”، سوى نايلون ازرق رقيق ممزق مسنود بأحشاب من أغصان الزيتون، اقتطعت من الأرض التي تحمل على سطحها هؤلاء البؤساء. وهناك من هم أحسن حالاً تمكنوا من بناء جدران من قرميد بدلاً من جذع الشجر ويسقفونه بهذا النايلون سقفاً محزوماً بحبال متنوعة ملونة أٌخذت من هنا وهناك لتحزم السقف بالجدران، وارض مغطاة بطبقة إسمنتية تعزلهم عن تراب الحقل الذي نزحوا إليه.

أحس بشلال عنيف من الوجع كلما تذكرت يوم عصفت بهم العاصفة. كنت يومها لاجئة في تركية انتظر الفرج للعودة، وعلمت أن هناك أطفالاً في المخيمات تم تأسيس مدرسة لهم، لكنهم بحاجة لمن يشرف على ما يتعرض له الطلاب من ضرب وشتم وهجر للتعليم، فتطوعت للعمل والإشراف، وأحببت أن أشارك أبناء بلدي حياة الخيام وأكون عوناً لهؤلاء الطلبة.

عدت إلى وطني حيث سكن النازحون والمهجرون قسراً من مدنهم وقراهم ومنازلهم، وأنا أفكر بالأوضاع النفسية والجسدية للأطفال  النازحين الذين سيحملون أفظع الذكريات وأقساها عن طفولتهم المجروحة. امتلأت أملاً وثقة وعنفواناً وفخراً وأنا أعود لأعيش بينهم، لكن هزني المشهد، وصدمت من أول عجلة دارت داخل سورية مقتربة من منطقة نزوح أهلي وأبناء وطني. لم استوعب الأمر في البداية، ألوان زرقاء وبيضاء وسوداء وحمراء … كل ألوان الطيف تجدها لإشكال تشبه الخيام، وهى بعيدة كل البعد عنها، وعلى مد البصر يميناً ويساراً.

مدرسة الحكمة

ودارت عجلة السيارة مسرعة بين طرفي مخيمات البؤس والشقاء، وأطفال تظهر من هنا تقشعر الأبدان لحالتهم، وشباب وشيب من هناك تبكيك علامات القهر الواضحة في عيونهم، ونساء ترفع ملابسها لتقيها من طين الأرض. وأنا أتساءل: “أليس هذا هو مخيم أطمة؟” ليأتيني الجواب:”لا…لا لم نصل بعد لاطمة”. كل هذه المخيمات ولم نصل؟ دخلت بنا السيارة عشرات الآلاف من الأمتار بين مخيمات عميت عيني عن رؤيتها بوضوح بسبب تدفق لا إرادي لدموع الحزن. وبعد عناء بالدخول إلى شوارع ضيقة، تحدها خيمات استخدمت دكاكين وأخرى للسكن، وصلنا أمام بناء من قرميد وسقف بلوح من التوتياء. وقفت السيارة معلنة أن هذا هو عنوان “مدرسة الحكمة” … نعم هي مدرسة لـ350 طالب، مكونة من سبعة صفوف مقطعة بقرميد وباب من توتياء وفتحة شباك لا يسترها شيء.

صفوف معتمة ونفوس متألمة متوترة. أي علم هذا الذي سيتلقاه الأطفال بهذا الوضع برد قارس وظلام دامس؟ ولكن علمت أنهم بأحسن حال، لأنه من فترة ليست بالبعيدة كانت مدرستهم خيمة مثل الخيم التي تحيط بالمدرسة، فتبرعت منظمة بهذا البناء وان العتمة اعتادها الأطفال والضرب هو الوسيلة الوحيدة للتعليم. لم استوعب ما أرى لأنني لم اعد أرى فعليا… هناك شيء غطى على عيني وتفكيري. ذُهل المدرسون  من طريقة حديثي، فقد اعتادوا على مشرف يأتيهم لدقائق يصرخ ويهدد بالفصل والتغيير وإغلاق المدرسة. ثم يرمى لهم فتات راتب بتوقيع مسبق ويذهب. طبعاً لا أنكر أنه راودتني نفسي على العودة أدراجي، فما لي وهذا العمل وكيف لي أن أبقى بهذا المكان الذي يخلو من أدنى متطلبات الحياة؟

ولكن كيف والأطفال تملئ المدرسة ضجيجاً وصخباً وكلمات تتردد أمامي لإسكاتهم وكأني بمعتقل للتأديب، فكلما دخلت صفاً وجدت مدرسه يحمل بيده قطعة من خرطوم بلاستيكي لأطفال تسحرك ابتسامة تفاؤلهم وتشدك كلمات ترحيبهم. جمعت المدرسين وجمعت ما بأيديهم من قطع بلاستيكية وسلمتها للمستخدم لحرقها، وطلبت منهم أن نتعامل مع الطلاب على أنهم بشر يكفيهم ما يتعرضون له من معاناة بهذه الحياة، فأسروا لي أن ما بهم من معاناة وألم هو ما يدفعهم لاستخدام العنف فضغوط الحياة بهذا المكان تجعلهم لا يتحملون همس الورود وليس صخب الأطفال ومشاكساتهم. المدرسة كانت للمرحلة الأولى فقط، مما يؤثر على مستقبل من ينهي تلك المرحلة، ويتركهم لمستقبل في مهب الريح.

قال لي أحدهم “أنت اليوم حضرت والحزن يكللك فكيف نحن؟ غداً أو بعد غد تعودين لحياتك بتركيا لأنك لن تتحملي العيش هنا، وان تحملت يومين فسيكون بيدك خرطوم اكبر”. وكانت المشكلة في النوم، فعرض علي احدهم خيمة لا يستخدمونها، لأشاركهم حياتهم التي يحيونها منذ ثلاث سنوات.

قصص المخيم

وبدأت ازور الناس مساء أقاسمهم همومهم ومآسيهم واستمع لمعاناتهم ومعاناة الفتيات والأطفال داخل تلك المخيمات. قالت لي إحدى الفتيات: آنسة يجب أن أكون في الصف العاشر، لكني لم أدرس السادس، كنت الأولى على مدرستي وكنت احلم أن أكون مدرسة، لكن هربنا من قريتنا إلى هنا، حيث لم يكن هناك مدارس. زوجتني أمي من شاب كان مديراً للمخيم، لكنني لم أتحمل العيش معه فهو يقضى الليل مع غيري، وعندما واجهته بالأمر ضربني حتى كدت أن أموت بين يديه، وطلقني فعدت لأهلي، لأاجلس في هذه الخيمة التي أكاد أن أموت قهراً فيها”.

تتالت السهرات في خيمات الجوار، ولكل خيمة قصة وحكاية تثقل كاهلي ألماً وغصة وتشعرني بالعجز. أعود إلى خيمتي وأنا أتقطع حزناً، فها هي أم تبكي طفلها الذي تركها ورحل ليلتحق بالكتائب المسلحة عله يحرر ضيعته ويعيد أهله لمنزلهم. وطفل أسعده عدم وجود مقعد دراسي له فاتخذ من ثمن سلة الإغاثة رأس مال للعمل بتجارة الموبايلات، التي درت عليه ربحا يكفيه إعانة والده العاجز وإخوته الصغار. وثالث اتخذ من خيمته مكاناً يمارس بها هوايته بجمع الطيور وحيوانات الحقل ويبيعها. وكثر من أمسكت بهم إدارة المخيم وهم يهمون بسرقة خيام أخرى، فكان مصيرهم الضرب والطرد خارج المخيم، لكن أهاليهم كشفوا أنهم ليسوا لصوصاً بل حاولوا استعادة المساعدات التي جاءت لهم ولكن هناك من سرقها.

 العاصفة هدى

في إحدى الليالي تعالت صرخات مدوية لعائلة بعد صفير عاصفة كادت أن تقتلع خيمتهم، صراخ امتزج بعتم الليل وصفير الريح وبكاء أطفال. أسرعت استطلع الأمر، فإذا بالصراخ يزداد هنا وعويل هناك، وخرج كل سكان المخيم لمساندة أولئك الذين عصفت بخيامهم الريح واقتلعتها لتترك الأطفال تحت سيول لا ترحم. و بازدياد صراخ النساء وبكاء الأطفال دخل الجيش التركي بسياراته وبدأ بإنقاذ هؤلاء وتحميلهم بسياراته، فلا خيمة بقيت لهم ولا ملابس جافة تقيهم هول العاصفة. كان يوماً مرعباً، وأصوات يتردد صداها داخلي بكل لحظة من لحظات عمري. عدت كما عاد كل إلى خيمته التي مازالت صامدة بوجه العاصفة. وكان صباح اليوم التالي حزيناً لا تسمع فيه إلا أحاديث التشرد والفراق. فمن انتشلته أيدي جيش الأتراك، نقلته لمكان آمن ودافئ، لكن بالمقابل هناك من فارق عزيزاً أو صديقاً.

وفي الليلة الثانية من العاصفة، حيث السيول جرفت أتربة الحقول من التلال وحطت بها فوق خيام المخيم، التي أنهكتها العاصفة في اليوم الأول ومزقت أطرافها، فاستعان البعض ببطانيات مبللة لسد خروقات، ومنهم من ألغى خيمته ليسند بها خيمة قريب له ويقضوا وقتهم في خيمة واحدة خوفاً من أن تنتشلها العاصفة. لكن مع اقتراب الليل تعالى صراخ الخوف المبحوح بدموع يخنقها الغضب والرعب. ركضت مع من ركض ملبين نجدة هؤلاء، فإذا بخيمة مبنية بجدار قرميد تهدم فوق ساكنيه، وخيمة أخرى تحطمت أرضيتها الاسمنتية لينبع الماء منها وتغرق الخيمة وترتطم بخيمة مجاورة لنتهدم الخيمتان على من فيهما. وكانت العاصفة في ازدياد حتى أن أرجلنا بدأت تغوص في الوحل، فأخذت معي فتيات شابات مع إخوتهن الصغار ودخلنا خيمتي وكلي خوف من أن يأتي الدور عليها وندفن تحت قرميدها الذي يهتز من هول العاصفة.

قضيت تلك الليلة أستمع لقصص الصبايا، هذه التي ذُبح أخوها ورفاقه في قريتهم، وتلك التي مات خطيبها وهو يحاول تهريبهم. وللصغيرة قصة مفجعة، فقد ذبح أبوها أمها لأنها ذهبت إلى تركيا لتعمل فتناهى إلى سمعه أنها تعمل في الدعارة، فلحق بها وذبحها ثم التحق بالجيش الحر، تاركاً أطفاله في عهدة والدته التي تكرههم جميعاً وتضربهم وتعيرهم بوالدتهم الزانية.

احتضنت الصغيرة في محاولة لبعث الدفء في أوصالها المرتعدة من البرد والخوف، وبقيت مستيقظة حتى الصباح وأنا أستذكر مجريات تجربتي المؤلمة، أنا العابرة في هذا المكان، فكيف بهم سكانه الذين لا يعلمون ما ينتظرهم طوال السنين القادمة.

* محامية في المكتب التنفيذي لمحامي حلب الأحرار

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »