Search
Close this search box.

رجل من بلدتي

رجل من بلدتي

وجدان ناصيف

انحنى والتقط بعض الأوراق المرميّة ولملم ما تبقى من علب معدنيّة وصناديق وقوارير فارغة ووضعها بشكل مرتب إلى جانب الحاوية. قريباً منه وقف مراهق، أخذ نفساً عميقاً من سيجارته ورماها أرضاً وهو ينظر إليه. انحنى الرجل بكامل جسده الستيني والتقطها ومضى بها إلى صندوق القمامة بدون أن ينظر إليه أو يبدي أي استياء من حركته الاستفزازية تلك. جال بعدها بنظره على الشارع الذي بدا راضياً عن نظافته وابتسم ومضى. لكنه ما أن وصل الى الشارع المفضي إلى السّاحة حتى بدأت تتصاعد أصوات طلقات رصاص من بعيد، إنه موكب تشييع “شهيد” جديد!

هو أستاذ اللغة العربية الذي قضى سنوات طوال من عمره معلماً ويعرفه جيل كامل من أهل البلدة. لكنه مثل حال كل(اللا-بعثيين) سرعان ما حرم من التدريس وأحيل إلى وظيفة مكتبية بائسة حرمته من مهنته التي لطالما شغف بها.

مع بداية (الأزمة) وفق تسميته، كان الأستاذ قد بدأ يتفرد في مهمته أو مشروعه كما يحب أن يسميه في “تنظيف البلدة”، لكن الشباب كان لهم مشروعهم المختلف. حاولوا جهدهم إدخال البلدة الصغيرة  في دورة الحراك الثوري الذي لم يقتنع فيه الأستاذ ” فالثورات لا تكون هكذا”،  يقول. إلا أن شباب الحراك الثوري نجحوا في النهاية في تحويل بلدتهم إلى مكان مقبول لاستقبال النازحين من المناطق المجاورة ومساعدتهم ما أمكن.

في البداية كان سكان البلدة ينظرون إلى مهمة الأستاذ باستغراب شديد، لكن مع مرور الزمن أصبح الأمر مألوفاً، بل وحتى مادة للفكاهة والتندر في زمن نضبت فيه موارد الضحك: يمرِّ عامل البلدية من أمام إحدى المحال التجارية فيرتفع صوت من الداخل :  ” .. مش بحاجتكن ..الحمد لله مرّ الأستاذ الصبح من هون.”… ويضحك الجميع!

أوقفه مرة أحد تلامذته القدامى وقال له معاتباً: “… نحنا بدنا نخلص من الأوساخ المؤبدة… وين يديك معنا يا أستاذ ؟”.. أجابه يومها الأستاذ بدون أن ينسى الابتسام: “هذا مشروع كبير وستدركون يوماً أهميته”.

مثل كل مرة يمرُّ فيها موكب تشييع، تقف البلدة على رؤوس أصابعها وترتجف قلوب الرجال والنساء،  ثم يبدؤون بتناقل اسم ” الشهيد” مع جمل متشابهة كل مرة، مثل :” الله يعين قلب أمه”،  “الله يصبر أهله “، وهكذا لا تقال أي جمله علناً إلا عن الصبر والتصبّر!

  اليوم عندما مرَّ موكب التشييع وقف الأستاذ مع الجموع في انتظار اقتراب الموكب، وكالعادة واكب مرور التشييع إطلاق رصاص كثيف.  جنون الرصاص جعل الكثير من الأمهات يركضن بأطفالهن إلى داخل المحلات.  في بداية الموكب كان هناك استعراض لدراجات نارية يقودها رجال بعضلات بارزة. ما أن اقترب هؤلاء من ساحة البلدة حتى رفعوا بنادقهم،  بعضهم حمل بندقيتين في الآن معاً. بعدها بدؤوا  بإطلاق الرصاص الكثيف. صاحَب الموكب أيضاً مراهقون مسلحون يحملون بنادق ثقيلة مقارنة بأجسادهم الصغيرة. يبدو وكأن هؤلاء أيضاً جادون في مشروعهم الخاص، في تعليم العنف والقتل، في استبدال الحزن الجماعي والتعاطف الإنساني بحالة من الغضب البهيمي من خلال الرصاص الذي يطلقونه باتجاه الله، فتعيد السماء هطله عبوات حارة ومؤذية تسقط على رؤوس الجموع. في إحدى القرى المجاورة وفي خلال موجة حمى الرصاص الغاضب، صعد أب “الشهيد” على الأكتاف فأعطوه بندقية ليطلق الرصاص في الهواء، لكن قبل أن تخرج الطلقة خارت قواه وارتجفت يده فمالت البندقية باتجاه الجموع وكانت الطلقة من نصيب ابنه الآخر. تحولت قصة الشهيد الضحية الى قصة الأب المعتوه الذي لا يعرف كيف يحمل البندقية.

اليوم وبعد حفلة الرصاص تلك عاد الجميع إلى عمله كأن شيئاً لم يكن. كان الأستاذ خلال ذلك واقفاً بدون حراك ينظر إلى المشهد بدون أن يشارك الآخرين تعليقاتهم، وما أن تفرقت الجموع حتى عاد لمهمته من جديد، انحنى ليلتقط بعض الطلقات الفارغة وارتعشت يده حين لامست سخونتها. غير بعيدٍ عنه، اجتمع بعض الصبية الصغار الذين كانوا يتسابقون لجمع الرصاصات الفارغة فوقف يراقبهم وهم يتنافسون في جمع العدد الأكبر منها. وطال مكوثه واقفاً بلا حراك الى أن هزّه أحدهم من كتفيه: “كم من المشاريع نحتاج لتنظيف بلادنا من هذا يا أستاذ؟”

أشاح الأستاذ بنظره إلى البعيد ومضى إلى حيث الأطفال. لا أدري بماذا فكر لحظتها، لعله تمنى لو مضى معهم إلى غرفة الصف وانتزع من بين أيديهم عبوات الرصاص  ثم مسك “الطبشورة” وكتب بخطه الجميل جملاً عن مشروعه الثقافي الكبير الذي يبدأ بتنظيف البلدة من القمامة!

لعله فكر بطلب السلطات بالسماح له بجمع الأطفال في المركز الثقافي لقراءة بعض قصصه عليهم، لعله فكر …

بقي الأستاذ جامداً للحظات ثقيلة أمام فضول الآخرين لمعرفة ردة فعله على الأوساخ الجديدة، لكنه وللمفاجأة  قرر أن يستدير عائداً اإلى الشارع النظيف الذي جاء منه قبل “العاصفة”، ومضى صامتاً وبقي صامتاً إلى أن اختفى في البعيد !

 خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »