Search
Close this search box.

سأحدثكم عن أم أسامة …

سأحدثكم عن أم أسامة …

فراس يونس

مع حلول ربيع 1983 كانت الكارثة العائلية ،قد  التأمت باعتقال كامل  أبناء أم أسامة وزجهم في سجن سيطول لسنوات وسنوات. تلك السيدة  التي غادرها زوجها إلى العالم الآخر في غفلة من الزمن وقد كان “مفتياً” في مدينة  الحسكة وله الكلمة العليا في مجتمع المدينة، كما في بيته،  بفارض علمه وتدينه الأخلاقي ومهابته.

  لم تكن  إدارة بيت يتناهبه الضيق،  والعسر المادي أمراَ بسيطاً وسط الحصار العائلي في توجيه اللائمة لأمهم التي لم تحسن  توجيه خيارات أبنائها، هذا الحصار الذي لا يقل قسوة عن غياب الأبناء الذين  شبوا على مخالفة تقاليد الخنوع ، واتباع التقية،  والسباحة عكس التيار.  ويضيق حال أم أسامة  اختناقاً،  مع تردد دوريات الأمن والمراقبة المستمرة لبيتهم الكائن في حي  الميدان،  إذ انتقلت شرارة التمرد إلى أخوات الشباب اللواتي صرن الآن مطاردات ومحاصرات تحت أنظار الأمن ورهط المخبرين .

أعباء عملها الوظيفية  كمستخدمة في مدرسة المأمون، لم تخفف من وهج نورها وطيفها النبيل الذي يلاحظه كل من لاقاها وتعرف عليها. تفرض احترامها على الطاقم الإداري والتدريسي والطلبة. لم تثنها مصيبة  وجود الأبناء في سجنهم وغموض المدة التي يقضونها بلا محاكمة أن تقرر متابعة تحصيلها الدراسي، كرافعة معنوية على صبرهم وخذلان الحياة لها ولأبنائها، الذين كان همها تأمين التواصل معهم وزيارتهم وموازنة ضغوط الوسط الاجتماعي،  مع احترام خيارات أبنائها في قرار معارضتهم لنظام الحكم في حقبة سوداء من تاريخ البلد مما اتفق عليه آنذاك والآن، إنه عقد الظلام

(الثمانينات) .

كان الحصار محكما وفجور القمع السياسي  في أوسع مداه الصامت جمهورية للخوف، والصمت وَعَدّ أنفاس البشر، وتسميم الأجواء الاجتماعية بالوشايات ، عبر ربط كل المجتمع بقياد الأمن والأمن وحده بمشيئة الرجل – الإله في قصره المنيف في أعالي قاسيون . والحصار الاقتصادي يحكم الخناق على الناس مع تصاعد خطى الفساد، وتفشي ظاهرتي المخبرين ومنتحلي الصفات الأمنية.

لم تكن الابتسامة تفارق  وجه أم أسامة،  كما لم يغادرها حماسها للمشاركة في  أي عمل   جماعي لأمهات السجناء للمطالبة بإطلاق سراح أبنائهن، أو تحسين شروط معاملتهم . لم يكن اليأس يتسلل إلى روحها وأعصابها.  سجين واحد في عائلة يكسر ظهرها فكيف بأم فقدت أبنائها في سجن لا قرار له  وفق  قاعدة أمنية واجتماعية غالبا ما كان السوريون يرددونها : الداخل مفقود والخارج مولود .

فرح السجن

لم يكن السجن دائماً  مساحة للرتابة ، والألم ويقظة الشوق الدائم ليوم حرية وخلاص من قيد وجودي، وتعاظم   حساسيات العيش الإكراهي المديد ، وتعملق التفاصيل اليومية، على حساب القضايا الكبرى التي يعتنقها السجناء.

يوم الخميس،  وهو يوم الزيارات في سجن حلب المركزي -ــ الذي تحاصره اليوم “جبهة النصرة” كما لو أنه هدف عسكري وتحتمي به قوى النظام كحائط صد بشري من لحم وأجساد السجناء ـــ  لم يكن يوما عاديا في سنة من سنوات الاعتقال المديد …عاد الأبناء الثلاثة  إلى مهاجعهم وقد استنارت وجوههم على  خبر فضي أشاع الفرح كل جناح المعتقلين السياسي. لم يسبق للأخوة ، أن تحدثوا عن تقديم أم أسامة لشهادة البروفيه الإعدادية، وهو صمت حميد غالباً ما نمارسه خشية أن تأتي النتائج عكس ما يتمناه المرء. نجحت أم أسامة في امتحانات الشهادة الإعدادية،  خطوة على طريق الألف أمل .

سرى الخبر كالحريق مشعلاً الأمل والفرح الحقيقي في النفوس وتحول الجناح  إلى مكان للأهازيج والغناء والرقص، ولم ينس  جورج جمع أدوات مسرته من  طناجر المهجع واضعا إياها أمامه كونه  عازف درامز مكين في  ملاهي ومقاصف حلب قبل اعتقاله، ليمارس هواية عزفه الصاخب، على خبر نجاح الأمومة والروح الطيبة لأم أسامة.

 ولم  يفت السجناء  كعادتهم في المناسبات الخاصة التهليل الديني : صَلُوا عَلى محَمَد زين زين مكحول العين اللي يعادينا الله عليه، بالإضافة إلى توزيع أطباق الشعيبيات الحلبية على السجناء والسجانين الذين هالهم ضجيج المهاجع وقد استوعبوا بالتدريج ما حدث بصمت مريب .

تتآكل الذاكرة وينهش الزمن الزاحف لخلاياها ركناً ركناً ، من تفاصيل السجن وأيامه السرمدية،  لكن يوم الخميس الأبيض هذا لن يمحوه النسيان .

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »