Search
Close this search box.

ثلج ولكن …

ثلج ولكن …

سلوى زكزك

 السوريون متأكدون من استحالة تأمين وسائل التدفئة،  فقط  ما يمكنهم فعله  هو زيادة التقبل النفسي لبرد قارس وممرض وقاهر، إحداهن تقول لي :نحن البؤساء، يخطط السوريون للبقاء في كامل ملابسهم السميكة حتى بمعاطفهم الثقيلة  داخل بيوتهم الجليدية ،سيقومون بتسخين حساء العدس مرات إضافية لبث الدفء في المكان وفي البطون الخاوية.

سيتوقف المارون أمام السيارات العابرة ليكتسبوا القليل من عوادمها السامة لكنها دافئة قليلاً وسيموت عدد أكبر من الأطفال فلن تكفيهم النار الصادرة عن دكتات التكييف التي ينامون فوقها طمعاً بالنجاة حتى صباح الغد ،لأن الدنيا موسم أعياد وعلى أصحاب الصالات  والمطاعم والملاهي طردهم حرصا على سلامة وراحة الزبائن طمعاً في تعويض خسارات هائلة في بلد كسته الحرب واستوطنت تفاصيله.

خلال أربعة أيام فقط ستنتهي محتويات أسطوانة الغاز التي وصل سعرها بالسوق السوداء الى أربعة آلاف ليرة، أي أن كلفة التدفئة فقط هي ألف ليرة يومياً، وإن تمكن البشر من تأمين مازوت للاستحمام لغياب الكهرباء ثلاثة وعشرين ساعة وأكثر فإن ما تستهلكه العائلة هو طاسة سعة خمسة ليترات وقيمتها التموينية ألف ليرة

تخيل أن  تكون مضطرا لحساب تكلفة عملية الاستحمام وقد تباعد ما بين استحمامين لأكثر من عشرة أيام فقط من أجل التوفير ، لا بخلا ولا طمعا وإنما لضيق الحال وعدم توفر حتى المال اللازم لإعداد حساء العدس فكيف بالاستحمام الذي يغدو أن يصير ترفا مشينا أو تهمة خطرة بهدر الموارد العامة . سيدة تسكن وتحيا على منتصف الطريق في باب مصلى، هي أول العالمات والمتأكدات من قدوم العاصفة  وهي المنتظرة لموتها هنا على الرصيف وعلى ذات اللحاف المهترئ ولكنها تبذل قصارى جهدها لتجمع أقصى ما يمكن من كرتون ونفايات بلاستيكية وورق شجر يابس ووو هي ستموت قطعا فالمطر سيبلل غنائمها وستصبح بلا  جدوى ، لكن لا خيار أمامها سوى الجمع والتكديس طمعا في النجاة حتى العاصفة القادمة، حيث بات عمرها وتاريخ إقامتها مسجل ومحسوب بعد العواصف وليس بعدد السنين.

والصغار لا دفء لهم إلا في أحضان الأمهات ، والأمهات مكرتعات وأيديهن متيبسة وعيونهن تسيل من شدة البرد ، ما الذي يرتجيه رضيع جائع من ثدي جاف وضامر من شدة الجوع.

حتى العائلات الموسرة وإن استطاعت تأمين المازوت للشوفاجات فإن حاجة الشوفاج للإقلاع هي أربعة ليترات يليها أربعة ليترات كل ساعة ، أي بمعدل إقلاع وتشغيل لأربع ساعات ليلية تحتاج العائلة إلى عشرين ليترا أي ما قيمته أربعة آلاف ليرة يوميا وهو مبلغ بات يشكل مصدر عجز عن توفره لفئات كانت تعتبر الشوفاج وتكاليفه عملية توفيرية وحضارية وإنسانية مميزة.

أما الفئات الأكثر عددا التي تستخدم الغاز حتى للاستحمام وللإضاءة وللطهو فهي الفئات الأكثر شقاء ، تحمل خزانات المياه المعدنية الضئيلة إلى الحمام ، تستحم سريعا من شدة البرد وتقلل من الصابون لتوفير الوقت والبرد والماء والغاز ، تنقسم دوريا للوقوف على  طوابير الغاز المهولة وقد تقف لمدة تتجاوز الساعات العشر قبل وأثناء التوزيع وعند وصول دورها قد ينتهي العدد الموزع لحصة اليوم ، وتعيد الكرة أياما وأياما كي تحظى بالقليل من الأمان، قد ينشل الواقف بالطابور وقد  يضرب أو تسرق اسطوانته الفارغة التي وصل ثمنها إلى عشرين ألف ليرة وغير متوفرة أصلا.

ثمة صقيع في الروح وعلى الشفاه والوجوه ، ما لا يمكن تعويضه بأمل انتهاء الحرب ، يمكن أن يتحول إلى رغبة جارفة بالتعويض عن تعثر تحقيقه بلحظة دفء أو اطمئنان داخلي ، بأننا لن نموت من البرد او متجمدين بموت جماعي صامت وقاهر

ترتفع أسعار الخضار والخبز بسبب تلف الخضار بالجليد وبسبب ارتفاع كلفة النقل والمواصلات

عاد السوريون لغسل ملابسهم وحاجاتهم الضرورية بواسطة أيديهم فقط ، فلا كهرباء كافية لإنهاء وجبة قد تحتاج أربعة أيام لتنتهي ، ولن تجف إن انتهت لأن البشر مكدسون في مساحات ضيقة وحبال الغسيل في مرمى المطر والثلج والصقيع

يقول السوريون إنه لا شيء يشعرهم بفقرهم كالبرد ، يشعرون أنهم لا شيء مجرد أشباح متنقلة على أرض غير ثابتة وسقف غير آمن ، بطانيات على أكتافهم كرجال الغابات وخوف بهيمي في عيونهم من إصابة جديدة  تذهب بقوة الجسد وصحة العقل وما تبقى في الجيوب إن تبقى شيء أصلا

تجمع المراجع الطبية على أن تكرار الحالات الالتهابية في الجسم وخاصة منذ الطفولة تؤسس لنقص في المناعة وقد تتسبب في أمراض القلب والمفاصل والقصور الكلوي المزمن مستقبلا.

ويجمع الأطباء النفسيون على أن العيش في بيئة عامرة  بالبرد وبصقيع الروح والحاجة وانعدام كل وسيلة تحمي  فعل العيش عبر تأمين الحد الأدنى من الدفء في ظروف عاجزة عن تأمين أدنى حق إنساني بالحفاظ على الحياة تودي بكل الثقة في النفس بل على العكس تؤكد للإنسان تفاهته وقلة قيمته وعجزه الكامل حتى عن رد طاعون البرد عن أبنائه

في غمار الحرب لا مسؤولية نحملها لأحد، لا مطالب بتدفئة متوازنة ولا بتخفيض أجور وكلفة التدفئة.

وتبدو المطالبة بتوفير كل مقومات التدفئة ضرب من الخيال في ظل غياب مطلق لكل شيء من حبة الدواء الفعالة وحتى صون حيوات البشر الذين وقعوا في فخ خديعة النجاة وليس لهم إلا الموت والموت نجاة!

خاص “شبكة المرأة السورية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »