Search
Close this search box.

أمنيات

أمنيات

إنانا حاتم

تلفحهم الريح فيبتسمون لها ببراءة وكأنها تلاعبهم، وعندما يقترب الخوف ليزاحمهم في باحة المدرسة، يرسمون شمسا تتحداه وينشدون أغاني لتطرده بعيداً، فيتسمر مصلوباً على حدود طفولتهم .

ذات صباح،  دخلت للصف مسرعة. كانت أصواتهم قد وصلت لمسامعي على غير العادة، فوجدتهم تجمعوا حول طاولتي متحمسين،  عندما اقتربت منهم رأيت أيدي سلمى وجابر مشغولة. كانا قد بدأا قبل قليل تقسيم  السندويشات بدقة شديدة إلى أنصاف متساوية. تابعا العمل دون الانتباه لوجودي بالقرب منهما!

الجميع وضع ما معه على الطاولة من سندويش أو ما توفر من قطع بسكويت او حتى قطعة فاكهة وبعض السكاكر، ليخضع طعامه لعملية تقسيم جديّة.

فاجأتهم بسؤالي :ماذا تفعلون ؟ ولماذا تقسمون السندويشات؟

فأتاني رد سلمى المفاجئ :” قررنا كلنا نأكل مع بعض”، واقترب جابر ليهمس لي في أذني  :”هيك ما بيعود حدا بيخجل اذا ما معه سندويشة، وكمان ما بيضل حدا جوعان”.

هم تلامذة الصف الأول الذين أكسبتهم الظروف رؤية لحلول يعجز الكبار عن التفكير فيها. معظمهم لم يحظ بشموع لأعياد  ميلادهم ولا بهدايا كما يحلمون.  أحرقت نار الحرب  كل الشموع منذ اندلاعها  ولم تترك لهم ولأهاليهم وقتاً يستمتعون فيه بفرحة وجودهم وبقائهم على هذه البقعة من الأرض !

لهم رغم صغر سنهم مواجعهم، لعلها مواجع أمهاتهم وآبائهم المزروعة بكل خلية من أجسادهم والتناقض الذي أثمرته  سنوات الحرب أزهر بأرواحهم الغضة وأفكارهم العفوية.

  أخبرتني أم عامر :” ابني عامر  صار عمره ست سنين. كل ما اتطلع فيه بحس بالتقصير. بتذكر شو محتاج أشياء عم نعجز كل يوم عن تأمينها”.

أبو احمد القادم مع أسرته من حمص والذي رضي السكن بمنزل رطب ومظلم، كان  يقوم بتوصيل ابنه إلى المدرسة كل صباح مشيا ، فوجئت عندما طلبت منه ترك أحمد  يأتي وحده للمدرسة لتقوية  شخصيته، فهو يعاني من صعوبة التأقلم  وعدم الانسجام مع المحيط وأكدت له انه بأمان.  رد أبو احمد  متنهداً :” خليني هيك بحس حالي أب ،أنا ما عم اقدر قدم شي لابني غير هيك “!

كانت عيون  الصغار مشتتة وأيديهم باردة، عندما طلبت منهم رسم أمنياتهم  للسنة القادمة. اقترب الجميع من فادي الذي انتهى من رسم مدفأة على الورقة ، فضحك وهو يقول: “يالله تعالو اتدفوا ..يالله على الدفا “.

وحنين رسمت أنواع كثيرة من الحلويات والفاكهة وقالت لي: “يالله شو مشتهية آكلهم كلهم “.

أما ” سمر ” فلقد فاجأت الجميع برسمها خاتماً جميلاً وعندما سألتها عن معنى تلك الأمنية ،أجابتني : “أنا ما بدي حلوى ولا صوبيا أنا بدى صير أميرة وأتزوج من أمير يأخذني لبعيد” !

لضحكاتهم حكاية تشبه قصة السندويشات ، يتقاسمون الفرح بغصة وكأنهم يسرقونه. بفطرتهم يقرؤون حزنَ مَن حولهم ، فينسجون ببراءة حكايات من فرح، لعلها تخفف هموم أهاليهم .

كانت سارة قد وزعت للمرة الثالثة أوراقاً رسمت عليها شكل قلب وأعطتها لرفاقها مودعة إياهم. عنندما سألتها عن السبب قالت : “خلص قبل بداية السنة الجديدة،  رح نرجع على بيتنا ،أهلي هيك قرروا” .

يتزاحم حولها رفاقها مودعين، وهي تشرح واصفة بلدتها التي هجروها منذ ست سنوات :”هنيك في شجر زيتون كثير وبيتنا مليان ألعاب وأشياء حلوة، صحيح أنا ما بعرفوا بس هيك خبروني اخواتي”.

وعندما سألتها عن وضع المنطقة التي سيعودون إليها وان كانت آمنة قالت مبتسمة: “الحمد الله ما في “غير شوية خطف”.

يتحدث الأطفال  مع بعضهم بلهجة جديدة ، فلقد التقت في هذا المكان  لهجات مختلفة من كل المناطق والمحافظات فكان لتمازجها لهجة جديدة عبارة عن خليط عجيب من اللهجات، مضحك جداً معظم الأحيان!

يلعبون ألعابا فيها الكثير من التحدي وكأنهم يعلمون مسبقاً أنهم سيحتاجون الكثير من  الشجاعة بالمستقبل ليكملوا شق دربهم. أغلبهم تعود الصبر على كل شيء وتعودوا الحرمان وقد أصبح أهم  طقوس حياتهم. استسلموا لظروف لم يعرفوا سرها إلا من خلال كلام أهاليهم عن الحرب والسلاح والكلمات الأخرى التي لا تستطيع طفولتهم استيعابها.

حسام الذي قرر أن يخلع حذاءه ويمشي حافيا تحت المطر، قال مبررا :”عم جرب كيف بيكون شعور الأولاد إلي ما عندهم حذاء” !

ومنصورة القادمة مع أهلها من ريف دمشق قدمت كامل طعامها ليومين متتاليين لرفيقتها مؤكدة  “أنا حابة أعرف لما كثير رح يجوعوا رفقاتي هنيك شو بدهن  يعملوا”؟؟

 الأطفال لا زالوا يرسمون أمنياتهم  بألوان واثقة وزاهية،  رغم مخاوفهم وارتباكهم ومخاوفهم.

سارة التي حققت أخيراً أمنيتها بالعودة إلى بيتها، انقطعت أخبارها ولم نعد نعلم عنها شيئاً. قال لي طلال اليوم أنها كانت في الليل تصرخ وأنه “كانت كثير خايفة وعم تصرخ…”. طلب مني أن أحاول الاتصال بأهلها بأي شكل. كوابيس الأطفال صارت كثيرة.

 اليوم كانوا يتسابقون تحت الغيم المتعب عندما ناديتهم لنضيء شمعة جديدة للسنة القادمة. تحلقوا حول الشمعة وبدأنا نسج الأمنيات.

وعندما اختلفوا على أهم  الأمنيات، صاح طلال : “خلينا أول أمنية تكون لسارة ، ندعي كلنا تكون بخير”

وافق الجميع فالخوف على تلك الطفلة يلف قلوب كل رفاقها !

أرسلنا أمنياتنا لها ولم نعلم إن كانت قد حققت حلمها  بالعودة ، أم أن “الشوية خطف ” صاروا حكاياتها !

وبرغم كل شيء ، أشعلنا للسنة الجديدة شموعنا وبدأنا مراسم البوح بالأمنيات و من أسرارهم  الصغيرة ، نسجنا آمالاً وحكايات، أرسلناها عبر نور ذاك الفتيل، وأسلمناها بأمل للريح.

خاص “شبكة المرأة السورية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »