وجبةٌ واحدة في اليوم تكفي!

وجبةٌ واحدة في اليوم تكفي!

نبال زيتونة

تلك حكاية قديمة كان جدّي يرويها لنا من زمن “العصملي” كما ‏يقول … تقول الحكاية: حين جاء “المرابع”؛ العامل في لغتنا اليوم، يستجدي عملاً ‏لدى الإقطاعي، ورغب أن يكون أجره وجبتي طعام وسيجارة في ‏اليوم إضافة إلى مأوىً وليرة عصمليّة في الشهر. رفض الإقطاعي وقال: هذا ‏كثير راعينا شوي يا رجل. قال المرابع: نصف ليرة عصمليّة. قال: لا.. أيضاً هذا ‏كثير وأنت ترى أن المرابعين كثر. واستمرّ السجال بينهما حتى وصلا إلى اتفاق على وجبة ‏طعام واحدة في اليوم ومأوى مع صيام يوم في الأسبوع!.. لكن ‏دون سيجارة ودون الليرة العصمليّة.

انتهت الحكاية. ‏

تذكّرت هذه الحكاية منذ مدّة وأنا أرى وأتابع أوضاع السوريّات هنا ‏في لبنان، حيث تستطيع السوريّة “المرابعة” لدى المنظّمات التي يديرها سوريّون، أن تأكل لأسبوعين ‏في الشهر، وتصوم الأسبوعين الآخرين، لكن بشبه مأوى أحياناً، وأحياناً أخرى دون مأوى ودون سيجارة! أمّا الليرة “العصمليّة” فهي من نصيب بعض المستفيدين خلف الكواليس!

هند لم تكمل شهرها الثاني في تلك المدرسة كما قالت، فالوضع أقسى من أن يُحتمل، ولاطاقة لأعتى الرجال على احتماله، وغيرها كثيرات غادرن بعد أسبوع أو أسبوعين من بدء عملهن، بعد أن شقين للحصول عليه.

إنّها مدرسة جسور في قلب العاصمة بيروت، التي تعمل بالشراكة مع جمعيّة المقاصد الإسلاميّة، حيث منحتها الأخيرة المكان في مدرسة “عائشة أمّ المؤمنين” على طريق جديدة.

يرتاد المدرسة حوالي 200 تلميذة وتلميذ من اللاجئين السوريين، يتوزّعون على فترتين متتاليتين في خمس غرفٍ صفيّة. الفترة الأوّلى من الثامنة صباحاً حتى الثانية عشرة ظهراً، والفترة الثانية من الثانية عشرة حتى الرابعة عصراً. كادر المدرسة كلّه من السوريّات والسوريين. حيث يقوم على إدارتها اثنان، ويعمل بها خمسة آخرون معلماتٍ ومعلمين، يغطّون الدوامين من الثامنة صباحاً حتى الرابعة عصراً براتب مقطوع، وقدره خمسمئة دولار شهريّاً.

ما يعني أنّ المدرسة تغطّي فترتي دوامها بكادرٍ واحد من العاملين. فإذا اعتبرنا أنّ مبلغ الخمسمئة دولار منصفة للمعلّمة، هذا يعني أنّها يجب أن تتقاضى ألف دولار شهريّاً على دوام الفترتين..

هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، قد تصل المعلّمة إلى حالة هستيريّة في نهاية الدوام، وقد يحدث ذلك قبل نهاية الدوام، وكثيراً ما بكت المعلّمات وانهرن أمام ما يواجهنه من متاعب الدوام الطويل، وعنف التلاميذ. تقول ليلى بأنها تشعر بالعجز وربّما تنهار قريباً، فإدارة المدرسة غير مسؤولة عن تغطية غياب أيّ المعلّمة، بل على المعلّمات أنفسهن أن يغطين الصفوف في حالة غياب إحداهن.

أمّا عزّة فتوجز معاناتها بالقول: تكمن المعاناة بالدوام المضاعف لفترتين متتاليتين، وكثرة المهام الموكلة إلينا، هذا ماعدا صعوبة التعامل مع هذا العدد من الأطفال في غرف الصفّ، هم الخارجون من ظروف حرب ولجوء.. حتى المعلّم القدير الذي أمضى جلّ عمره في التعليم، يصعب عليه التعامل مع الأطفال في مثل هذه الظروف، حيث بتنا بأمسّ الحاجة إلى مرشدين اجتماعيين، ومتخصّصين بالدعم النفسيّ.. أضف إلى ذلك كثرة المهام التي سترافقني إلى البيت، حيث عليّ أن أحضّر الدروس المتنوّعة في موادّ مختلفة لعدّة مستويات موكلةٍ إليّ.. وتضيف عزّة بضرورة وجود النشاطات الترفيهيّة خلال العام الدراسي، ليتمكّن التلاميذ من تفريغ كمّ العنف الذي يثقل عليهم حياتهم، وليس أن تكون هذه النشاطات محصورة في العطلة الصيفيّة فقط..

وكانت السيّدة هبة مديرة المدرسة أشارت إلى عدم وجود حصص للدعم النفسيّ، وبالمقابل هناك حصّة واحدة للرياضة البدنيّة في الأسبوع، وحصّة أخرى للفنون.

أمّا سارة فتقول: بالتأكيد ليس من السهل العمل مع الأطفال الناجين من الحروب. هناك حالات صعبة وبحاجة إلى أخصائيين نفسانيين. وهذه المصاعب واجهتها في أكثر من مكان وبالعمل مع منظّمات أخرى.

حالات عنف مرعبة متفشية بين التلاميذ، ولا يوجد أخصائيين نفسانيين، ومطلوب منّا نحن المعلّمات أن نتعامل مع هذه الحالات حتى لو لم نكن مختصين أو مؤهلين لذلك. عبء آخر ينضاف إلى أعبائنا الكثيرة في هذه المدرسة، إضافة إلى فترات الدوام الطويلة والمهام التي سترافقنا إلى البيت.

أمّا أولياء التلاميذ فمستاؤون ممّا يلاقي أبناؤهم في المدرسة إضافة إلى عدم قدرتهم على تغطية المصاريف الإضافيّة للأبناء.

تقول أمّ خليل بأنّ ابنها يعاني من كثرة تغيير المعلّمات، وهذا ما يسبّب له أزماتٍ نفسيّة تُضاف إلى رصيدٍ هائل من أزمات الحرب والموت والنزوح واللجوء.

أمّا أمّ عليّ فلا تستطيع تغطية مصاريف المدرسة على مدار العام، لأنّ المدرسة تعطي التلاميذ القرطاسيّة بالقطّارة كما تقول، ولمرّة واحدة خلال العام الدراسيّ.

في حين تحدّثت السيّدة المديرة عن تغطية احتياجات التلاميذ من القرطاسيّة والكتب والمواصلات، لكن بدون وجبات طعام.

كثيرة هي المنظّمات التي تعمل مع اللاجئين السوريين في لبنان، و”جسور”  واحدة من هذه المنظّمات غير الحكوميّة، التي تهدف إلى تسخير إمكانات المغتربين السوريين لدعم التنمية في البلاد ومساعدة الشباب السوري كما جاء على موقعهم على الانترنت.. وتتلخّص مهمتهم في إشراك السوريين الذين يعيشون خارج سوريا في مشاريع من شأنها أن تطلق العنان لإمكانات الاقتصاد السوري، وتعزيز معيشة المواطنين في سوريا.

حيث انطلقت “جسور” للعمل مع اللاجئين السوريين في لبنان منذ حزيران 2013. ويركّز برنامجها التعليميّ على خلق فرصٍ تعليميّة للأطفال السوريين في لبنان من خلال استيعاب ألفٍ ومئتي طفل في مراكزها الثلاثة التي تتوزّع بين “بيروت”، و”جب جنين” في البقاع الغربيّ، و”مخيّم الجرّاحيّة” في المرج. ويهدف برنامجهم للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الأطفال السوريين اللاجئين في لبنان، كما يعملون على إيلاء أهميّة خاصّة للعامل النفسيّ والاجتماعيّ للأطفال. وينسّقون جهودهم مع المفوضيّة السامية للاجئين واليونيسيف ووزارة التربية في لبنان، حيث تقوم جسور باتّباع المنهاج اللبناني الرسمي مع بعض الإضافات فيما يخصّ اللغة الإنجليزيّة والعربيّة.

وأخيراً لابدّ من التساؤل متى تصير المصداقيّة منهاجَ عمل لدى هذه المنظّمات، ويتوازى النظريّ مع الفعليّ على أرض الواقع؟

وهل تتناسب أجور العاملين مع حجم التمويل الذي تتقاضاه هذه المنظّمات، علماً أنّ معظم النشاطات تكون تطوّعيّة؟

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »