تلازم النسويّ والثوريّ في خطاب ريم الخشّ الشعري

تلازم النسويّ والثوريّ في خطاب ريم الخشّ الشعري

نبال زيتونة

غابت المرأة زمناً عن ساحة الشعر والفكر والبوح، كما عن غيرها من الساحات، لصالح منظومةٍ استبداديّة محكمة الإغلاق، صارمة القواعد.. تنفسّت هواء الأنظمة الحاكمة سياسيّةً كانت أم مجتمعيّةً، وارتدت عباءة التقليد الذي كرّسته تلك الأنظمة، وتحلّت بقيم الموروث المفروض عليها لتقديم نفسها على الساحة الأدبيّة.. وإن أرادت أن تقول غير ذلك، فتواجَه بالاتهامات؛ فبالغموض حيناً، وفي أحيان أخرى بسذاجة القول وتسطّح الفكر، وفي أحسن الأحوال؛ لابأس عليها فهي امرأة!..

جاءت الثورات العربيّة حاملةً رياح التغيير على كلّ الصعد، فاتحةً أبواب التجديد على مصراعيها، سواء في الشكل أم في المضمون، وترافق ذلك مع انتشار تيارات النسويّة ووصولها إلى الساحات العربيّة عبر بوّابة الربيع العربيّ..

فالنسويّة حسب الناشطة النسويّة الكنديّة “لويز توبان”، هي انتزاع وعيّ فرديّ بدايةً، ثم جمعيّ متبوعاً بثورة ضدّ موازين القوى الجنسيّة وتهميش المرأة.. حيث تلتقي في مضمونها مع الثورة على الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ الموسوم بتهميش وعي الفرد من جهة، والمرأة من جهةٍ أخرى على خلفية النوع الاجتماعيّ، وسلب حقوقها لصالح المنظومة الذكوريّة والاستبداد. وكثيراً ما يلتقيّ النسويّ بالثوريّ على خلفيّة الظواهر الاجتماعيّة الطامحة للتغيير والوصول إلى العدالة على كلّ المستويات..

ولعلّ الشاعرة ريم الخشّ، واحدةٌ من اللواتي فتحن نوافذ الفكر على القديم المتجدّد، منطلقةً من وعيها الحالة الإنسانيّة في فضاء حرٍّ، تحكمه قيم العدل واحترام الإنسان.. ولعلّها تستنهض أنوثتها وحبّها للحياة من منظور المرأة الثائرة، القادرة على التعبير عن ذاتها، بعد طول سبات، فرأت في العشق جوهر كينونة المرء، ومرادفاً من مرادفات الحياة..

فأوّل ما يطالعنا في نصوص ريم الخشّ “الحبّ”، تلك الكلمة العامرة بالحياة، تأتي في سياقات متنوّعة انطلاقاً من الحبيب الفرد إلى الإنسان عموماً إلى المدينة والوطن، وليس انتهاءً بالتفاصيل الصغيرة..

ولا عجب أن تطغى هذه الكلمة، لفظاً ومعنىً على نصوص الشاعرة.. فالحبّ لغةً مأخوذ من “الحِبّة” بكسر الحاء، وهي بذور الصحراء، فسميّ الحبّ حبّاً لأنّه لباب الحياة وأصلها، كما هو لباب النبات.. وفي رواية أخرى، فالحبّ من “الحُباب” الذي يعلو الماء عند اشتداد المطر. أمّا في النفس البشريّة، فهو ما يشبه غليان القلب وخفقه الموازي لحركة الحياة..

أردت الوقوف عند هذه الكلمة “الحبّ”، لأنّها متوافرة بكثرة في نصوص الشاعرة، لدرجة أنّها غدت عنوان خطابها الشعريّ الأوضح. وليس هذا فحسب، فهي تستخدمها في مختلف مستوياتها، من

(الهوى – الصبوة – الشغف – الوجد – الكلف – العشق – النجوى – الشوق – الوصب – الاستكانة – الودّ – الخُلّة – الغرام – الهُيام)..

قد فُضْتَ يا قلبي بالحبّ كالنبعةْ معطاءة تروي لا تعرفُ الخُدعة وثَمُلْتَ بالعشقِ أتْقَنتَه صنْعَهْ!!.. زرعتني ورداً سقيتني مُتعةْ.. تميلُ مُنْتَشياً مخضوضرَ الطلعةْ والعطرُ تنْشُره!.. في قمةِ الروعهْ.. قد جاء ممتلئاً بالوجدِ باللوعةْ.. وظلمةُ الأيام… تنسابُ في دمْعَهْ.. خزنْتُهُ روحي وذبتُ كالشمعة.. والقلبُ سكرانٌ.. لا يدري ما وجعه!! أدمنته عشقاً.. أنّى ليَ الرجعه؟ يا قلب لا تنسَ أنَّ الهوى جُرْعَه!!..

حشدٌ كثيفٌ من كلمات الحبّ بمستويات عدّة، يطغى على نصّ صغير كهذا، تتزاحم حيناً، وتتقاسم المشهد الشعريّ حيناً آخر, فترى العشق، النشوة، الوجد، اللوعة والهوى، حيث تعلو روحك وتهبط معها من حالةٍ لأخرى..

العشق مرادف الحياة:

وقد تمادت الشاعرة أبعد من ذلك بكثير حين عدّت العشق مرادفاً من مرادفات الحياة، أو لعلّه نبضها المحرّك.. فكلّما أوغلنا قليلاً في نصوصها تطالعنا هذه المعاني الثرّة، التي تنضح بها شاعريّتها لتلاقي سمت الأفق على عتبة اللامنتهي..

فالعشق لغةً هو فرط الحبّ، وهو مستوىً متقدمٌ من درجات الحبّ، إذ ليس مصادفةً أن يكون مرادفاً للحياة في خطاب ريم الشعريّ، ففي حين يتردّد نزار قباني في نشر أفكاره عن العشق لأنّه ليس بقسيسٍ كما يقول، ويعدّه أمراً خاصّاً به ولا يجد نفسه مضطرّاً تعليمه للآخرين، فلا تتردّد ريم في ترديده وتكراره، إذ تراه حاجةً إنسانيّة يوميّة، بل هو جوهر الحياة وكينونتها، كما هو متلازمة الضياء والفكر:

ألا إنّ الحياة بدون عشقٍ….. كعقل المرء ينقصُهُ الخَيالْ

فلا ربِحَ الحياة بغير فكرٍ….. ولا عرف المحبّةَ والجمالْ

وإنّ العشقَ يملؤنا ضياءً….. ويُشعلُ طاقةَ الفكر الزلالْ

وإنّ العشقَ روح الكون يغزو….. قلوباً ملؤها كسر المُحالْ

من الباب الأوسع ولجت ريم الخشّ عوالم الحياة، مخترقةً لغة الصوفيّة، مسبغةً عليها جماليّة أنسيّة متجدّدة، حيث تجسدّها في نصّها قيمة هي السّدى لهذا النصّ تنسج عليه معانيها المكمّلة لسيرورة الإنسان حين تقول:

نشوى تُحلِقُ في الفضاءِ وتدّعي… أنَّ الفضاءَ بسحرها يتأنقُ!!..

نجوى وليدةُ مقبلين على الهوى.. قد راحتِ الأوتارُ منها تخفقُ

برقت بها باقي النجوم واشعلت عند اللّقى كنيازكٍ تتألقُ

هيَّ رغبةٌ خلاقةٌ ترنو بنا.. هل تنجحُ الرغباتُ أم تتمزقُ؟

أم أنّها سرُ الوجودِ وكنهه.. والوجدُ فيها رائعٌ إذْ نغرقُ..

أرواحُنا تبغي وصالاً عاشقاً في الوصلِ ينبثقُ الوجودُ.. ويُشرقُ

للعشقِ في الأيام وقعٌ رائعٌ.. من فيضه نُسقى الهناء.. فنورقُ

رباه فاجعل عشقنا لمسرّةٍ كم ضاع في بعد الأحبة رونقُ

الوجع السوريّ:

على خلفيّة مفردات الحبّ الغزيرة، كثّفت ريم وجعها السوريّ، فكان له النصيب الأوفر في شعرها.. ففي أحيان كثيرة قد يكمّ الوجع الأفواه ويغلق القلوب على الألم المتّشح بالسواد، لكن في حالة ريم، نجدها تفتح بوابّة الفكر على ذلك الألم وتشرع أبوابه على الأزمنة مستحضرةً عتباته في روحها ليكتمل المشهد..

سورية.. جاءت إلينا كربلاء.. ودموعها ملء السماء.. جاءت إلينا تشتكي حقداً وعربدة سواء!!.. فطيور سجّيل بدت سكرى.. وترقص للدماء!!..

ويسوع قد صلب هنا.. صلب وعلّق في عناء.. صلبته آلام بكت.. أشلاء من مات هباء!!.. يا ويحَ أمتنا التي نامت وأحكمت الغطاء!!.. يا ويح إنسان رأى ظلماً ولم يكشف بلاء!!.. قد صرت يا حلب العطاء حبلى بأوجاع البقاء.. قد مات فيك طفلنا.. مات وكُفّن في خفاء.. والعهر قد بلغ الفضاء.. رحماك يا ربّ السماء!!..

ولعلّ صرختها لا تتوقف عند عتبةٍ أو زمن، مادامت الجريمة مستمرّة، ومادام الموت ينهش جسدها السوريّ، ليتجسّد الألم صوتاً راجفاً يشوبه الضعف والوهن حيناً، ويشتدّ عوده أحياناً أخرى.. لكن في كلّ حالاته هو تعبيرٌ ثائرٌ رافضٌ للموت متمسكٌ بالحياة..

خذوني وليمة.. فأرضي تُباع.. وأعتى جريمة.. حصار الضباع.. نفوسٌ كريمة.. عراةٌ.. جياع.. خذوني عطايا.. لأهل مضايا.. لها الروح عندي.. وكلّ الحشايا.. خذوني وليمة.. إليكم مشاع.. فأيّة قيمة.. حياةٌ سقيمة.. وأنتم جياع..

خاتمة:

وأخيراً، طوبى للمرأة السوريّة عصيّةً على الفناء، قادرةً على الانبعاث من تحت الركام كطائر الفينيق، تنفض عنها غبار نصف قرنٍ من التغييب والتهميش..

  • د. ريم سليمان الخش..

دكتوراه في الرياضيات العشوائية ونظريّة الاحتمالات – جامعة دمشق – قسم الإحصاء الرياضي.

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »