Search
Close this search box.

كي يكون ملف معتقلينا حاضراً في أي تفاوض ومبحث

كي يكون ملف معتقلينا حاضراً في أي تفاوض ومبحث

غالية الريش

شكَّل الإعتقال السياسي في سورية أهم آليات عمل النظام الديكتاتوري “الصامتة” خلال عقود سيطرته وهيمنته على مقدرات البلاد والدولة والمجتمع، وكون “حزبه” – فيما مضى –  قائداً للدولة والمجتمع، فقد منحت تلك السيطرة الاسمية لحزبه، بتوغل الأجهزة الأمنية باصطفافات ولائها وأهميتها بالنسبة إلى مركز القرار الذي كان ولا يزال يتبوأه الديكتاتور الحاكم دون أي اعتبار لسلطة أخرى. ساهم هذا النهج التدميري بتسميم الحياة السياسية  بكل تشعباتها وتعقيداتها كوسيلة من وسائل سيطرة النظام أو الحزب الحاكم في إقصاء خصومه وتهميشهم والحد من خطرهم المحتمل وإبعادهم من دائرة أي منافسة في خضم صراع عربي – إسرائيلي مزمن استطاع النظام توظيف حالة العداء لإسرائيل في فرض حالة طوارئ مستديمة واجراءات استثنائية، تبيح له فعل كل شيء واتهام خصومه بالخيانة الوطنية في حال إبداء أي نزوع اختلافي أو توجيه نقد موضوعي على أي سياسة، بل أخذت سياسة الاعتقال في سياق مرحلتي الأسد الأولى والثانية أبعاداً خطيرة في تفاقم هواجسه من التنافس إلى الإحتكار التام للسلطة وتأميم مقدرات البلد من خلالها في آلية ترويع واحتواء لم تلبث أن تصاعدت تباعا مع ارتفاع زخم الثورة الشعبية السورية في 2011  التي لم يوفر نظام القمع والديكتاتورية من وسيلة إلا واستخدمها الى المتاح الأقصى تنكيلاً وسحقاً للحركة الشعبية الناهضة في كل المدن والبلدات.

وبعدما كان التنكيل يجري في خفاء السجون وزنازينها المعتمة، صار يتم في طول البلاد وشوارعها وساحاتها ومدارسها وصار الموت هدفاً رئيسياً لقناصة النظام حيث يؤمرون، ومن يحد عنه الموت يمسِ هدفاً للاعتقال وتكون الطريدة أشد ” دسما” في حال إصابتها لأنها ستعرف طريقها نحو الإبادة المطلوبة وبالجرم المشهود، فالإصابة والجروح والكدمات علامات لا تخطئها عيون الشبيحة ومحققي الأمن في اختصار طريق التحقيق الوحشي الذي لا بد أن يفضي الى أسماء وعناوين جديدة تمهيدا للقضاء عليه – دون جلبة وضجيج ومساءلة.

تشهد السجون السورية ومعسكرات الاعتقال أوضاعاً مأساوية لا مثيل لها في العالم، من حيث قسوتها وسوء معاملة سجناء الرأي والمتهمين في المشاركة بالأعمال المعارضة سلماً أو عنفاً واختفائهم من خلال تضييع أثرهم الإداري وطمس مسؤولية اعتقالهم، ورمي مسؤولية اعتقالهم على جهات – غير حكومية – يعطي لتلك الأكاذيب والتهربات مصداقية ما. كما أن وجود تنظيمات جهادية سلفية وعسكرية مارست وتمارس الخطف لدوافع عديدة يعقد الأمر من جهة أخرى، فتضيع طرق بحث  الأهالي عن ذويهم وأبنائهم وتضع احتمالية فقدهم النهائي تنوس عند أي بادرة إفراج مهما تكن شكلية.

يمر السجين بمراحل عصيبة بعد اعتقاله خطفاً من الشارع أو من البيت، تبدأ بالتحقيق بغرض انتزاع المعلومات حيث يصير الاعتقال وسيلة لانتزاع المعلومات من خلال التعذيب الذي مورس على عشرات آلاف المواطنين والمواطنات السوريات، كأنه منصة إعدام معنوي  مع فارق أن المعتقل سابقاً كان يحظى بمدة اعتقال مديدة كتصفية معنوية لحياته الشخصية وآماله، بدلاً من تصفيته الجسدية أما في سياق ما بعد 2011 فإن الأمور أخذت منحى مهولا من العذابات التي تنتهي باحتمالات العطب الجسدي والنفسي فضلاً عن التصفية الجسدية، وأمام حراك جماهيري غير محدد الرؤوس والأهداف ولا تُعرف خيوطه من مبتداها إلى منتهاها، يصير الاعتقال وسيلة لإلغاء الأعداء وترويع الأحياء، وبدلاً من مهام أجهزة الاعتقال السياسي في متابعة اعتقال الخصوم وراء جدران البيروقراطية الأمنية سوف تجبر الثورة أجهزة القمع والترويع على النزول إلى الشارع ليس بهدف اعتقال الثائرين على النظام وحسب بل وتحطيمهم وتصفيتهم

 الإفلات من العقاب

كان رد النظام على الادعاءات الموثقة بانتهاكات حقوق الانسان التي قدمتها جهات دولية موثوقة وموثقة بالأدلة والمعطيات الدقيقة عن أسماء المعتقلين وتواريخ احتجازهم غير كافية وغير ملائمة تكرس لأجواء الإفلات من العقاب بما في ذلك أعمال القتل غير القانوني والتعذيب والاختفاء القسري والاحتجاز القسري، ولم يكتف النظام بسياسة الإنكار التام بل لجأ منذ زمن بعيد إلى تحصين أجهزته بالمراسيم والقرارات التي تمنع أي سلطة جهازية أو شخص ينتمي إليها من المساءلة والمحاسبة. وكل مهتم في سورية يعرف ماهية المرسوم التشريعي رقم 14 الصادرفي 25 ك2 سنة 1969 والذي ينص على أن إدارة المخابرات العامة لا يمكنها اتخاذ أي إجراء قانوني ضد موظف في المخابرات العامة على جرائم ارتكبها أثناء تأديته لمهام عمله وهو ما يعني في نهاية المطاف إخلاء أي مسؤولية عن مصائر من يمرون في هذا الممر الجهنمي.

مسؤولية من؟

لا يزال مئات الآلاف من المعتقلين والموقوفين سياسياً والمتهمين بمشاركات تتدرج من التظاهر إلى معتقلي الرأي والموقف إلى حمل السلاح خلف القضبان في ظروف لا إنسانية رهيبة يلفها الغموض والتناسي فضلاً عن الإنكار المنهجي الذي اعتمده النظام ديناً وديدناً ولا مناص من إمكانية تغييره، فالكذب والديماغوجيا وسيلة من وسائل إخفاء هذه الجريمة المنظمة التي يعد الاعتقال السياسي أحد أهم أركانها.

هذا الملف الساخن يجب أن يكون على طاولة أي تفاوض أو بحث، وعدا عن كون هذا الملف الإنساني مسؤولية أخلاقية وكفاحية وإنسانية، فهو ملف سياسي بامتياز ويحمل أي تورط في التقليل من أهميته وحجبه عن مداولات التفاوض إساءة لاعتبارات الثورة على النظام الديكتاتوري، وتغاضياً عن أهم وسائل الضغط على النظام في انتزاع حرية المعتقلين وهو لا يقل أهمية عن الهدنات المؤقتة ووصول الإغائات إلى المناطق المنكوبة، والعمل بقوة الضغط متعدد الجهات لإطلاق سراح معتقلي الرأي السلميين، وضروة تقديم كل من أقدم على حمل السلاح لمحاكمة عادلة وقضاء مدني مختص. ورغم أن النظام لجأ أكثر من مرة إلى اتخاذ قرار رئاسي بالعفو العام عن المعتقلين، لم يستطع الكثيرون من السجناء ومعتقلي الرأي الاستفادة من ذلك العفو الذي لا يمكن اعتباره إلا ذراً للرماد في العيون، ومؤشراً على متابعة نهج الإنكار والتغاضي عن السؤال عن مصير عشرات الآلاف من أبنائنا وبناتنا.

ويقتضي هذا من كل قوى الثورة والمعارضة الحقيقية إيلاء ملف الاعتقال والمعتقلين السياسيين الاهتمام المطلوب ومتابعته يومياً عبر وسائل إعلامية وتعبيرات فنية وأدبية جمالية، فأحبتنا في زنازينهم المعتمة ومعازلهم الموحشة يستحقون كل اهتمام وتضامن وصوت حر جريء.

خاص “شبكة المرأة السورية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »