Search
Close this search box.

قصص من المعتقل …

قصص من المعتقل …

نبال زيتونة

“مشكلتنا مع السنّة الإرهابيين!..”

سميّة، سيّدةٌ مغربيّة في العقد الثالث من عمرها.

حسنة الوجه كانت سميّة، لولا تلك الندوب الزرقاء والحمراء التي تشوبه، وآثار تعذيب بادية عليه، طويلة القامة، ممشوقة القدّ، لكنها اليوم لا تستطيع الاستواء في وقفتها، ولن تستطيع الرقص بعد الآن، بسبب الشبح والضرب والركل..

كانت سميّة تغنّي وترقص في ملهى ليليّ في مدينة التلّ بريف دمشق، وتقول بأنّ لديها رخصة لمزاولة تلك المهنة، موقعة من فروع أمنيّة كثيرة في سوريا، ولديها عقد زواج من سوريّ يشرعن إقامتها على هذه الأرض، التي جاءت إليها بقصد العمل وكسب الرزق، لكنّ زواجها صوريّ فقط من أجل الإقامة ورخصة العمل.. ما حدث أنّ تلك السيّدة رفضت دعوة أحد الرجال إلى قضاء ليلة معه.. ولم تكن سميّة تعرف ما الذي ينتظرها، لأنها لم تكن تعرف هويّة ذلك الرجل كما قالت، فقط تعرف بأنه مسيحيّ، هكذا أخبرها..

وفي اليوم التالي وعند بداية وصلة المساء في الملهى، حوصر المكان ودخل مسلحون شهروا أسلحتهم واقتادوها مع صاحب الملهى وابنه، بعد أن كبّلوا يديها “وطمّشوا” عينيها.. تقول سميّة إنهم أخذوها إلى مكان في جبل عالٍ، تحيط به الثلوج، وهناك شُبحت في العراء، وتُركت للكلاب تنهش جسدها العاري وهي معلقة لساعات في صقيع كانون في نهاية عام 2013، حيث تكرّرت عملية الشبح بشكل يوميّ لعدّة أيام، حتى لم تعد تشعر بالألم، وكأن جسدها قطعة من خشب.. كلّ ذلك قبل أن يبدؤوا التحقيق معها، وقبل أن توجّه إليها أيّة تهمة إلى أن خارت قواها. بعد ذلك بدأت جلسات التحقيق، فعرفت أن ذلك الرجل الذي دعاها لقضاء ليلة معه، هو ضابط في الفرقة الرابعة، وهي اليوم متّهمة بمساعدة الإرهابيين وتمويلهم والتستر عليهم، والدعارة لصالحهم!..

أمضت سُميّة ما يقارب الشهر في مقرّ الفرقة الرابعة في أعلى الجبل، ثم نقلوها إلى زنزانة معتمة في فرع الأمن السياسي بالمزة..

تقول سميّة عندما حقّقوا معها في الأمن السياسي، سألوها عن دينها ومذهبها، وإن كانت علويّة أم سنيّة. فقالت بأنها علويّة من المغرب، حاولوا استمالتها من حيث طائفتها، وخاصّة أنّ ملك المغرب علويّ، كما قالوا لها، “ويدعمنا في حربنا على الإرهابيين السنّة”.. سألوها لِمَ لم تقبل دعوة ذلك الضابط، فقالت بأنها لا تستطيع إقامة علاقة جنسيّة مع مسيحيّ، وهي المسلمة!.. فأجابها الضابط: “كان عليكِ أن تقبلي لأنّ مشكلتنا ليست مع المسيحيين بل مع السنّة الإرهابيين!..”.

أذهلها ما لاقت من تعذيب، وتساءلت إن كان ذنبها يستدعي كلّ ذلك!؟.. وأذهلها أكثر طريقة التحقيق معها ووضاعته.. سمعت كثيراً عن سوريا وأحبّتها، لكنّها لم تكن تعرف ما الذي يحدث في الخفاء!.. “فاطمة.. مريم.. نبال.. وكثيرات التقيتهنّ هناك، هل أنتنّ حقّاً إرهابيّات؟!.. هل سأموت هنا ويشقى طفلاي من بعدي؟!..”

أمضت سميّة في تلك الزنزانة ما يقارب الشهر، ودأبت على الصلاة والصيام والاستغفار، وعانت فيه ما عانت من برودة الزنزانة ورطوبتها، خاصةً وأن جسدها بدأ يتقرّح لكثرة القمل الذي أتى على جروحها.. بكت سميّة واستعطفت الكبير منهم والصغير، إلى أن رحّلوها من تلك الزنزانة مكبّلة، مثقلة بالسلاسل، لا ندري إلى أين؟!..

“وتشركين بالله يا منال!..”

هذه كانت تهمة منال في المعتقل..

من أحد مراكز تدريب اليوغا في جرمانا اعتقلوها، مع طاقم المكتب الذي تعمل فيه كاملاً، مع العلم أنّ المكتب مرخّص من جهاتٍ أمنيّة عدّة كما تقول.. لكنّها لا تعرف سبباً للاعتقال، أمضت منال أيامها الأولى تقف إلى جانب باب الزنزانة، ترقب “الطاقة” التي يطلّ منها الضوء شحيحاً، فينعكس على ملامح وجهها قهراً، وعلى نظراتها زوغاناً وذهولاً، وذلك قبل أن يطلبوها للتحقيق.. ساهمة غافلة عن أيّ شيء يدور داخل الزنزانة، عيونها معلّقة على حبل من القهر طويل، يمتد من مقرّ عملها إلى آخر نقطةٍ في سنواتها الأربعين، حيث توقّفت الحياة هنا.. وها هي تنام واقفة، أو لا تنام، حتى أنّها لم تخلع حذاءها طوال أيّام..

“أهذه خلقةٌ تواجهين بها وجه ربّك؟!.. أأنتِ مسلمة أنتِ؟!.. لماذا لا تضعين الحجاب؟!.. أنت تشركين بالله يا منال..”. بهذه الكلمات واجهها المحقّق التقيّ الورع في فرع الأمن السياسيّ بالمزة، في لقائها الأوّل به.. المحقّق ذاته المثقف المطّلع المتنوّر، الذي حدثني غير مرّة عن أسباب انتشار الإرهاب في أوروبا..

لم تستطع منال أن تنطق بكلمة إلا بعد عودتها من جلسة التحقيق الأولى، وذلك بعد أيّام من الاحتجاز..

سألت النسوة منال عن الأوضاع في الخارج عن البراميل والقذائف والكهرباء.. عن الجوّ والشمس والريح والمطر.. عن الناس والحواجز والشوارع والأسعار.. عن الطعام والشراب.. وكانت تجيب باقتضاب بكلمات مبهمة عامّة، فهمنا منها أنّ الحالة تزداد سوءاً.

منال سيّدة دمشقية، من أحياء دمشق القديمة، تسكن في جرمانا، وتعمل في معهدٍ لتدريب “اليوغا”، طويلة القامة وممتلئة، ترتدي بنطلون الجينز وجاكيت.. هكذا جاءت، وهكذا تركتها حين غادرت الزنزانة.

“عفاف تعاقب على فعلة زوجها…”

من الغريب أنّ الجدران الإسمنتيّة للزنزانة لم تتحرّك لصراخ تلك الطفلة، ولم تدمع عين الباب الحديديّ الأخضر، حتى العتمة لم تخجل، ولم تتراجع ولو قليلاً لتفسح للطفلة ذات السنتين مجالاً للعب، وقد زُجّت برفقة أمّها في زنزانة معتمة في فرع الأمن السياسي بالمزة، زُجّت في “بطن الغولة”، كما أسماها أحد أتباع تنظيم الـ “pyd”، غير مرّة،  ساخراً من ألمنا ومعاناتنا في زنازين النظام.

عفاف سيّدة حامل في شهرها الخامس، وقد اصطحبت معها طفلتها، لأنّهم لم يسمحوا لها بأن تضعها عند أحدٍ من أقاربها أو جيرانها كما أخبرتنا فيما بعد.

صراخ الطفلة لساعات طويلة، وخوفها من العتمة، لم يستطع أن يحرّك المشهد المعتاد، حتى أنّه لم يزعج السجّان.. تعاونت النسوة للتخفيف عن الطفلة وأمّها.. لا أدري أهو الخيط الذي كان يربطهن بالحياة، أم هو الألم، الشيء الوحيد الذي ينبهّك بأنّك مازلت على قيد الحياة.. لم تستطع الأمّ الكلام حتى اليوم التالي، حيث قصّت علينا قصّتها.

اعتُقل زوج عفاف على حاجز أثناء دخوله إلى مخيّم اليرموك كما تقول، بتهمة الإتجار بالمخدّرات، وضُبط بحوزته أربعة كيلو غرامات منها.. واعتقلوها من بيتها في حيّ قريبٍ من مخيّم اليرموك يدعى “دفّ الشوك”. وكانت قد أمضت ما يزيد عن العشرين يوماً مع طفلتها في الأمن الجنائي بدمشق، قبل أن يسلموها لفرع الأمن السياسي بالمزة.

لم تكن قصة عفاف مقنعة، وقد سألناها كيف يُقدِم زوجها على إدخال هذا الكمّ من المخدّرات إلى منطقة محاصرة، وعن طريق حاجز رسميّ للنظام نفسه، لو لم يكن في مهمة رسميّة موكلة إليه من قبل جهة رسميّة ما لدى النظام؟ سألناها عن عمل زوجها، وما شأنها بإتجار زوجها بالمخدرات إذا ثبت أنّ المادة ليست في بيتها، ولا تتعاطاها؟

أذكر أنّ عفاف تلعثمت في الكلام وأبدت عدم الاكتراث بأسئلتنا الغزيرة.

أمّا كيف أمضت الأم وطفلتها أيامها العشر في تلك الزنزانة، فتلك كانت المصيبة!

لكن الحقيقيّ في هذه القصّة أنّ الأم مُنعت من استخدام الفوط لابنتها طوال إقامتها بيننا، وكثيراً ما كانت تعيد إليها ثيابها المتسخة نفسها، وأحيانا أخرى تغسلها بالماء البارد دون الصابون، الممنوع في الزنزانة، وتلبسها ثيابها رطبة.. أذكر أن الطفلة لم تتوقف عن الصراخ طوال تلك المدة التي أمضتها بيننا، بسبب العتمة التي أفزعتها، والجوع والبرد، والحشرات التي أدمت جسدها الغضّ.. أكلت الطفلة الخبز المبلول بالماء، ولم تذق طعم الحليب أبداً.. وكثيراً ما كانت النسوة تهدئ من روعها بتسليتها واللعب معها حتى تتعب وتنام، ثم تعاودها نوبة البكاء والألم بعد حين، عندما تتمكن الحشرات من جسدها الغضّ.

مرّت الأيام صعبةً على الجميع، حيث زاد الطين بلّة وجود تلك الطفلة.

بعد ذلك نُقلت الأمّ وطفلتها من الزنزانة، لا نعرف وجهتها، وأذكر أنه طوال تلك المدة لم تُطلب السيّدة للتحقيق أبداً.. وحين نادوا على اسمها بعد عشرة أيام تقريباً، قالوا لها اجلبي أغراضك وابنتك.

بقي أن أقول أنّ سميّة ومنال وعفاف وغيرهن كثيرات، نساءٌ شوّهت أرواحَهن وأجسادَهن أنظمةٌ بحجم القهر، ونفاقٌ بحجم المجتمع الدوليّ والمنظّمات الدوليّة لحقوق الإنسان!

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »