Search
Close this search box.

زنابق الحَسَرات

زنابق الحَسَرات

إنانا حاتم

هبت نسماتٌ باردة، فتناثرت العصافير مبتعدةً، باحثة بفطرة الحياة عن مكان آمن. إنّها نهاية فصل الشتاء، لقد مرِّ قاسياً هذا العام أيضاً مثل أعوام أربعة سبقته، لكن السّماء الشاحبة والملبّدة هذا الصباح تنذر بعودته من جديد!

هرعت أم فارس لشرفة بيتها لتنقل أصص الزهور للزاوية الدافئة. كانت قد زرعت آخرها قبل يومين وهي تدعو من قلبها أن تكون آخر واحدة تزرعها هناك!

فمنذ اندلاع الحرب وعدت نفسها أن تزرع زنبقة، كلما مرّ شهيد أو قتيل من ذلك الشارع الذي تطّل عليه شرفتها. “سأزرع لكلّ روح زهقت زنبقة لعلها تنام بهدوء وسلام”، تقول وهي تسقي زنابق الشرفة الضيقة ثم ترفع وجهها وتتكلم بصوت مسموع: “يا رب.. أوقف هذا الجنون”، لكنّ شرفتها امتلأت بالزنابق ولا تزال تراقبها كلّ يوم وهي تنمو وتتطاول باحثة عن نور الشمس!

تسمّرت أمّ فارس مكانها، فصوت الريح لم يكن وحده ما أرهب العصافير. بدأت تراقب ما يجري أسفلاً في الشارع، كانت أصواتهم تعلو صاخبةً، لكنّ صوت أسلحتهم أكثر وضوحاً وقسوة!

اقتربت من الحافة لتنادي على ابنها، فالمعمعة التي وصلت جلبتها للسماء لن تفرّق بحقدها بين من حمل سلاحه وهجم على ذلك المكان وبين من دفعه فضول المراهق للمشاهدة!

حالة الشرذمة التي وصلت لها البلدة (الآمنة) خلال وقت قصير، تصيبها بالدوار. تتساءل كلّ حين كيف تحوّل هؤلاء الشباب لوحوش كاسرة؟ كيف تمرّدوا على كلّ القوانين والعادات والتقاليد الصارمة؟ هل سينجو وحيدها من رصاصهم الطائش لأتفه الأسباب؟ ألن يعود يوماً إلى البيت مدمناً أو مسلحاً بسكاكين أو بوسائل قتل أخرى، تباع كلّ حين أمام المدارس وعلى أرصفة الشوارع وحتى أمام مخفر الشرطة؟

كلّ العيون وقفت مذهولة أمام ما بدؤوا يفعلونه اليوم. اقتحموا مخفر البلدة غير آبهين لعناصر الشرطة أو لوجهاء البلدة والمتفرجين بلا حول ولا قوة. السلاح بين أيديهم ورائحة سجائرهم التي يتباهون بها، وكلماتهم البذيئة تثير سخط الصامتين بدون أن يجرؤ أحد على الكلام، لكن “الله يهديهن!”، تقول وهي تفتّش بعينيها عن وحيدها. سمعت أنهم يريدون من مدير المنطقة إطلاق سراح أحد رفاقهم، وكان قد سجن بتهم كثيرة، أوّلها النصب والسرقة، وآخرها الإتجار بكلّ شيء ممنوع، نعم كل شيء!!

وبدأت تستوضح الأمر وتنادي على ابنها بصوت لا يكاد يُسمع. ثوبها الأسود الطويل يعيق حركتها بين أصص الزنبق الكثيرة. تمد يدها لتفلته فتصطدم يدها ببرودة الزنابق فتشعر بالقشعريرة. دَوْر مَن اليوم؟ تحدّث نفسها: “يا رب الطف.. يا رب الطف”!

سمعت هديرهم  وزمجرتهم وهم يكسرون زجاج السيارات وكلّ شيء أمامهم،  لكنّ منظر الشرطي وهو يختبئ مرعوباً كان الأصعب!

فمنذ فترة لم يعد للشرطيّ هنا أيّ قيمة أو حصانة!

وكان لآخر هجوم على المخفر قبل شهر أثرا  كبيراً في ذلك، خاصة بعد أن قام هؤلاء بتصوير أفراد الشرطة بعد أن أجبروهم على الوقوف ووجوههم للحائط، رافعين أيديهم للأعلى  كالتلاميذ المعاقبين!

ومن كثرة ضحك الشارع عليهم أصبحوا يلعنون الساعة التي  خدموا  فيها بهذا المخفر، لكنّ هؤلاء الشبان كانوا  يسيئون لكلّ من يصطدم معهم ويسارعون لإشهار أسلحتهم التي قدّمتها لهم جهات رسمية بوجه الجميع، وقد أعدوهم ليكونوا (حماة البلدة)، فاختاروهم بعناية ليقوموا برجم وشتم كلّ من رفع رأسه مطالباً بحق!

وهاهو سمّهم وسعير نارهم وسوء تربيتهم سيحرق البلدة ومن فيها.

قرّر أهل البلدة بعد تلك الحادثة أن يوقّعوا عريضة، يدينون فيها هؤلاء الذين أطلقوا عليهم اسم “زعران” ومن أعطاهم الأسلحة ومن يحميهم. وقّع العريضة أكثر من خمسة آلاف من أهل البلدة إلا أن شيئاً لم يتغير، بل على العكس ازدادت طلقات أسلحتهم واحتقارهم للناس، معلميهم، وجهاء البلدة، شيوخ عائلتهم وحتى آباؤهم. ووصلوا إلى حدّ تهديد كلّ من وقّع هذه العريضة بالانتقام، وطارت ورقة العريضة في مهب القانون الغائب.

تنهّدت أم فارس عندما شاهدت أطفال الحارة يضحكون على الشرطي وعلى رئيس المخفر المختبئ بغرفته!

“يا ويلي على هالجيل شو عم يتعلم وشو عم يشوف..”، حدثت نفسها.

احتشد أهالي البلدة ومعهم الكثيرون من الشيوخ وطلبوا التفاهم بدون استخدام السلاح، لكن بقي الرصاص لغة الحوار الوحيدة هناك. وبرغم أن التفاوض أدى إلى إعطائهم وعداً بإطلاق سراح زميلهم (المجرم)، إلا أنّ عنجهيتهم وإتقانهم لعبة الحصول على كلّ شيء بقوة السلاح، جعلهم يزيدون من إطلاق الرصاص الذي قابله رصاص من عناصر الشرطة المختبئين في غرف المخفر.

علا صوت الرصاص لوقت ظننته دهراً، ثم خرجت عن صمتها صارخة بصوت مقهور:”بس خلص بكفي رصاص ….وقفوا”…

نظر فارس للأعلى صارخاً بوالدته كي تبتعد، لكنها قرّرت أن تتابع كلامها (وقّفوا النار…. وقّفوا الرصاص.. خلي هالأرواح التعبانة ترتاح). لكنّ أحداً لم يسمع صراخها.

وبلحظة واحدة سكت كلّ شيء! توقّف صوت أمّ فارس.. ثم توقّفت لعبة الرصاص.. وتوقف الكلام والتكسير والصراخ، فهي ما عادت تسمع شيئاً!

إنها على الأرض هناك مرميّة. لقد اخترقت الرصاصة قلبها وهي تحاول أن تخبرهم عن حزن الزنابق وتعب الأرواح  في أرض تاهت فيها دروب السلام!

ركض أولادها وأهل الحارة لإنقاذها، لكنّ دماءها كانت قد تناثرت فلونت الزنابق الخائفة!

رحلت أم فارس وبقيت زنابق الحسرات تنتظر من يرويّها!

ولا تزال روحها التائهة معلقة هناك بانتظار من يزرع لها زنبقة في شرفة مطلّة على لعبة الموت.. بانتظار صدفة الحياة.

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »