رحيل

رحيل

إنانا حاتم

بعد إلحاح  أبنائه للحاق بهم،  قَبِل أخيرا عرضهم، فجهّز حقائبه حاملاً ما تبقى من صور جميلة  وأشياء أحبّها معلناً الرحيل.

لاح له وجه زوجته المتوفاة وقد احتفظ بصورتها مبتسمة في ذاكرته، لكنه هذه المرة رآها تلوّح له  بيدٍ حزينه وبدت ملامحها ضبابية خلف ستار دموعه. هز رأسه مبعداً عنه أي تردد. استحضر صورة مفرحه للقاء أولاده وأغمض عينيه وهو يغلق الباب الخشبي الكبير، وابتعد!

كان الباص بانتظارهم وسط المدينة، هو ومعه الكثيرون، فتش في وجوههم عن إشراقة فرح، لكنهم كانوا جميعا مثله، مكسورين ومهزومين!

فجأة سمع صوت يناديه  بلهفة وفرح: “أنت هنا! الحمد لله … ستسافر بنفس هذا الباص؟ الحمدالله”.

اقترب الرجل ليوصيه بأخته التي قررت الرحيل واللحاق بزوجها الذي ركب البحر قبل شهور باتجاه ألمانيا وبعد أن خاب أمله في “لمّ الشمل”، طلب من زوجته أن تحمل طفلتهما الصغيرة وتغادر البلاد بنفس طريقته. قال لها أن الأمر ليس صعباً كما يمكن أن تتخيل، هو مثل آلام الولادة التي تنساها المرأة ما أن ترى صورة وليدها، أو مثل “قلع الضرس”، هو “ألم زائل” اكدّ لها زوجها عبر الواتس آب.

قبل أن تمضي الحافله بقليل طلب منه صديقه أن يجلس المرأة وطفلتها الى جانبه. اسمعه بما تسنى له من وقت بعض الجمل حول معرفته بأخلاقه العاليه وشهامته: “هي بعهدتك … دير بالك عليها زكاة عينك”، قال له وهو ينظر الى وجه أخته الطفولي الذي بدا مطمئناً لكلماته!

بدأت الرحلة بوداع بسيط، فالمهاجرون أصبحوا كثر وكل يوم يودع هذا الرصيف العشرات! لوحت الصبية لأخيها بيدٍ مرتعشة وقلب تائه! وودع هو المدينة بتنهيدة وأمل  أن تنتهي الحرب لعله يعود مع أبنائه من جديد!

سار بهم السائق لمدة زادت عن الثماني ساعات حتى وصلوا للمكان المحدد حيث وعدهم أحد المهربين بإيصالهم للحدود التركية. لكن وبعد انتظار ساعات لم يحضر المهرب الى الموعد. وبين مد وجزر بنقاش مع السائق والمهربين الجدد الذين عرضوا مساعدتهم بسخاء، قرروا أن يستبدلوه بمهرب آخر. كان الوقت قد أصبح منتصف الليل فارتأى الجميع أن يناموا بأقرب فندق تلك الليلة، لعلهم ينطلقون مع مطلع الفجر.

عندما دخلوا الفندق، حمل الرجل عن المرأة الطفلة الصغيرة، مشفقاً عليها من تعب السفر.

طلب صاحب الفندق البطاقات الشخصية وعندما أعطاه الأوراق، طلب عقد الزواج! فرد الرجل مصدوماً:”أي عقد؟” وأوضح له بصوت عالٍ: “إنها أخت صديقي وهذه ابنتها. أنا وحدي هنا”. هز الرجل رأسه، وبابتسامة خبيثة ناوله المفاتيح”.

مضت الليلة بسرعة وكان الصباح جاهزا بضجته ليوقظهم من نوم لا راحة  فيه.

أسرعوا ليخرجوا من الفندق عندما أوقفهم صاحب الفندق قائلاً: “أنصحكم أن تقولوا أنكما متزوجان لتكونا بأمان”. رمقته السيدة  بنظرة قرف واستهجان وتابعت السير بالقرب من الرجل الكريم الطيب!

وأخيرا وبعد انتظار طويل أقبل المهرب الجديد ليسافر بهم ويوصلهم إلى “بر الآمان”، حسب وصفه. كان الطريق يتجه شمالا  ثم غربا وكلما سأله احدهم عن الوجهة يقول: “انتو الكن تصلو على حدود تركيا وبس”. لكن الطريق كان يزداد طولا وقبل أن يبشر بالوصول قال المهرب منبهاً الجميع: “وصلنا مناطقهم، على كل النساء أن يغطين رؤوسهم جيداً وينزلن النقاب على وجوههن. أثارت جملته المفاجئة حفيظة البعض لكن بدا له أن معظم الركاب يعرفون هذه الاجراءات وان هناك نساءاً جهزن نقابهن منذ بعض الوقت.

لم يمض الكثير من الوقت حتى توقفت الحافلة وصعد اليها رجال ملتحون، وبلهجة غريبة سألوا عن الوجهة فأجابهم المهرب هامساً. وعندما طلب أوراق المسافرين ناوله أوراق الجميع. تنقل الرجال المسلحون بين مقاعد المسافرين وتوقفوا عند مقعدهما. ارتبكت المرأة عندما استيقظت وليدتها وبدأت بالبكاء وسقط نقابها الذي وضعته للتو وهي تحاول تهدئة الصغيرة. اشار المسلح لهما بالنزول وسرعان ما أشار للباص بالمغادرة.

سأله الرجل الذي يبدو قائدهم : “هي زوجتك؟” وأجاب بـ”لا” مرتبكة. كرر لها السؤال لكنها أجابت بـ”لا” حاسمه. “هو صديق أخي وأنا ذاهبة للالتحاق بزوجي”.

طلب منهما الانتظار ريثما يقرر الشيخ الذي على ما يبدو كان يستمع في الغرفة المجاورة. نظر إليها محاولاً أن يطمئنها ويخفف من قلقها لكن ذلك كان صعب المنال فهي كانت تحاول كل الوقت تهدئة روع الصغيرة التي لم تتوقف عن البكاء.

هناك بدأت رحلته التي لم يتوقعها بين أيادي  تكثر الصلاة ولا تعرف الرحمة. تقاذفته أياديهم مع اللعنات عندما أراد  أن يحميها منهم قائلا : “انتو شو بدكن منها ومني !!” وتفاجأ بأنهم قد بتوا بالأمر وأنهم حكموا عليه وعليها بعقوبة. “بأي حق تحاكموها وتحاكموني ونحن لم نقترف أي ذنب؟”

لم يعطوه فرصة لإتمام جملته، جروه لزنزانة بعيدة تحت الأرض.

استيقظ ليجد نفسه داخلها بجسد تملئه الكدمات. بحث بزواياها لعله يجد بعض الماء ليغسل جراحه لكن  الحارس وعندما سمعه  يقول (مي) قال : “اذن تريد الوضوء؟ احسنت” . كان متعبا وروحه تكاد تختنق فطمئنه الحارس: “انت عقوبتك بسيطة لا تخاف .. اجتهد بالصلاة وحفظ القرآن والتعاليم لتنجو”.

هو رجل مسلم منذ ولد، لكنهم قرروا أن يجروا له امتحاناً بذلك وفي رحلة اكتشافه لطريق نجاته صادف تعاليم وفرائض يريدون منه حفظها وتطبيقها لم يكن قد سمع بها في حياته.

انثنى على نفسه محاولا أن يفهم ما يجري وقرر أن ينجح بالامتحان فلا منجاة له سواه !

كان كلما أغمض عينيه  تتراءى له وهي تستنجد به، يمسح وجهه محاولا أن يبعد عن خياله ما يمكن أن يفعلوه بها وقد أعلنوا “أنها سافرة وكانت تسافر بلا محرم وتجلس أيضاً الى جانب رجل غريب!”

تصفعه  الأصوات التي تأتي من الزنازين المجاورة فيغرق بدوامة قلقه. صوتها وعيناها  توقظان داخله العجز فيعود لينكفئ على ذاته محاولاً أن يطمئن نفسه أنها بخير!

استجمع شجاعته مرةً وسأل الحارس عنها فقال له :”لا تفسد توبتك يا رجل!”

وبعد ثلاثة شهور من سجنه وحيداً في زنزانته حيث القليل من الطعام والماء والكثير من الصلاة وتلاوة القرآن، جاء الحارس ليخبره أنه محظوظ لأنه موجود في هذا القسم : ” قسم التوبه” .

نجح أخيرا بالإمتحان وأصبح وبعد ستة أشهر من رجال الله الصالحين بنظرهم. قال فيما بعد أنه كان في كل يوم يحفظ تعاليمهم أكثر كان الله يبتعد عن قلبه أكثر.

قبل أن يجعلوه قاتلا , طلب منهم أن يعمل، فهو تاجر منذ نعومة أظفاره ويجيد مهارة عقد الصفقات وإقناع الآخرين بشراء ماء البحر حتى. وبعد سجال ونقاش معهم أقنعهم ووعدهم ألا يبتعد عن دولتهم المصونة الصالحة. وبالفعل اخذ يعمل مع سائق للباص, وفي آخر مشوار له طلب من السائق أن يجعله ينزل ليقضي حاجته , وهناك نجح بالابتعاد،  فسار مشياً على الأقدام عشرات الكيلومترات ثم وصل لبلدة ارتاح فيها وأكمل طريقه.

انتهت رحلة الهروب بأحدى الحافلات، لكن منظر المنقبات  فيه وصوت القرآن الذي يصدح اوحى له أنه لا زال في مناطقهم . سارت الحافلة جنوباً بضعة كيلومترات والجميع يستترون بصمت مخيف الى أن أعلن السائق أنهم خرجوا من الجحيم. حينها توقف  صوت القرآن واستبدله السائق بموسيقى صاخبة تثير الحماسة للرقص وصدمه منظر المنقبات اللواتي ودفعة واحدة أزحن النقاب عن وجوههن وتنفسن الصعداء وبدأن حديثا مرحاً . إحداهن أخرجت سيجارة وبدأت تدخن بنهم ضاحكة وهي تغني مع الأغنية الصاخبه وكأنها تكمل غناءاً اضطرت لقطعه بعض الوقت!

ما أن وصل الباص الى أول مدينة حتى نزل منه مدركاً أنه الآن فقط نجا. احس بالإمتنان للهواء وللشمس ولكل ما صادفه. طلب أن يستخدم الهاتف ولم يزعجه رفض البعض، أخيرا استطاع الاتصال بأحد أقاربه الذي ساعده بالعودة الى بيته سالماً.

يضحك ساخراً من فرح أولاده عبر السكايب بنجاته وكلمات من جاءوا لتهنئته بعودته سالماً. كان يعرف أنه ليس كذلك. صوتها ليلا يحرق قلبه. يسأل نفسه كل يوم ذات الأسئلة دون أن يجرؤ على التحدث مع صديقه: “ما مصيرها؟ هل كان عليه أن يقول أنها زوجته؟ لما لم يقل هي ابنتي؟ هل كان عليه أن يتجرأ للسؤال عنها؟ لماذا جبن عن فعل ذلك؟”

يغمض عينيه محاولاً النوم، يتقوقع كالجنين فيئن موجوع الروح, يستلقي في كآبة بيته كل ليلة محاولاً أن يرسم حلم للمخاض لعله يولد فيه من جديد.

اللوحة للفنان “سنان حسين”

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »