Search
Close this search box.

زحفت على بطنها لتربي أولادها

زحفت على بطنها لتربي أولادها

 لمى راجح

هل تعلم  معنى أن تفقد أحد أطرافك وتتحول لإنسان عاجز طوال حياتك ولا تستطيع حتى أن تعيل نفسك؟ هل تعلم  معنى أن تخسر جزءاً من جسدك إلى الأبد؟

حكايتي كحكاية نساء كثيرات تضررن من الحرب الدائرة في سوريا، ودفعن الثمن غالياً. اسمي ليال وأبلغ من العمر 34 سنة،  متزوجة وأم لخمسة أولاد.

قصتي بدأت قبل سنة ونصف وفي حدود الساعة الواحدة والنصف ليلاً عندما ألقت طائرات النظام السوري برميلاً متفجراً على بيتي في منطقة بستان القصر/حلب، حينها شعرت بوخز في وجهي وغبت عن الوعي. استيقظت بعد ثلاثة أيام من غيبوبتي على صوت والدة زوجي وهي تتحدث مع زوجي وتوصيه ألا يخبرني أنهم قطعوا قدمي اليمنى! لم أصدق ما سمعت فعدت إلى غيبوبتي مجدداً نتيجة الصدمة!

في اليوم التالي صحوت ويا ليتني لم أصحُ، فقد وجدت نفسي ممددة على سرير في أحد مشافي حلب، وجسدي ملفوف بشاش أبيض كشرنقة بيضاء بعدما انتشرت الشظايا في جمع أنحائه، أتأمل ذاك الجسد ثم أنظر إلى أطرافي السفلية وقد تم بتر ساقي، فأجد نفسي أستغرق في حيرتي، وأفكر كيف سأربي أولادي الخمسة وأكبرهم لم يكمل الخامسة عشرة من عمره، أنظر إلى زوجي وأتساءل عن مدى قدرتي على تلبية احتياجاته وأعجز حتى عن النهوض من هذا السرير!

لم يكتف البرميل المتفجر بانتزاع قدمي وتحويلي لامرأة عاجزة، بل شوه وجهي أيضاً، فللوهلة الأولى عندما نظرت إلى المرآة لم أصدق ما حل به، فقد رأيت ندبة بنية اللون، متوسطة الحجم، رسمت على خدي الأيمن، بعدما دخلت إحدى الشظايا واستقرت في وجهي متسببة بتشوهه.

رحلة علاجي انتقلت من حلب الى تركيا، وتحديداً في إحدى مشافي غازي عنتاب، حيث مكثت هناك ما يقارب الثلاثة أشهر ونصف. خضعت خلالها  لعدة عمليات جراحية، فالبرميل الأسدي سبب لي أيضاً كسوراً في ساقي اليسرى نتج عنها كسر في مفصل الركبة، وكسر في عظم الفخذ، مما أدى لوضع صفائح “بلاتينيوم” حولهما لتثبيتهما، بالإضافة لاستقرار الشظايا في بنية العظم مسببة لي الكثير من الآلام والتهابات.

وخلال كل ذلك تحملت الألم والخضوع للعمليات الجراحية وتأثيرات المخدر على جسدي، لكنني لم أستطع الصبر على فراق أولادي، فخلال هذه المدة كان جل همي رؤيتهم والاطمئنان عليهم. أردت أن أظل في عيونهم تلك الأم التي ترعاهم رغم مصابها الصحي.

طوال فترة  مكوثي في المشفى، كنت أسيرة مخاوفي من مواجهة المجتمع والأقارب بعدما أصبحت عاجزة، ووجهي مشوه، ولاسيما عندما ألمح نظرات الشفقة في عيون كل من زارني في المشفى، هذه النظرات زادت من وطأة الأسى في نفسي. لذا حبست نفسي داخل منزلي بعدما تم إخراجي من المشفى، وامتنعت عن رؤية الناس، فلم أعد أطيق رؤية تلك الشفقة في عيونهم، ولم أعد أحتمل الخوف من أن أقع أمامهم على الأرض، وأزحف على بطني. هذه الكبرياء  لم تكن موجودة أمام أولادي، بل على العكس كنت أزحف على بطني وأحاول أن أتكئ على كلتا يدي كي أرعاهم وأشرف على تربيتهم، فتراني حريصة على إعداد الطعام لهم، وذلك من خلال جلوسي على الأرض متربعة، مستخدمةً جرة غاز صغيرة الحجم مزودة برأس اشتعال.

من ناحية أخرى شعوري بالعجز عن الحركة لم يمنعني من أن أخلق الوعي لدى أولادي بالاعتماد على ذاتهم وأنهم لم يعودوا صغاراً، بل بات بإمكانهم أن يرعَوني ويرعَوا أنفسهم. ومع ذلك فإحساس الحزن ظل يعتريني كلما فكرت أنني لا أستطيع استقبال أولادي لدى عودتهم من المدرسة، أو حتى إمساك يد ابني الصغير والذهاب معه إلى السوق.

بوادر أمل بعثت في صدري قبل سبعة أشهر، عندما توجهت لأحد المراكز المعنية بتركيب الأطراف الصناعية في مدينة كلس التركية؛ من أجل تركيب طرف صناعي لي. وعلى الرغم من أنني سأستبدل ساقي التي كانت من لحم ودم بقدم صناعية، إلا أن ذلك أفضل من أن أظل مقعدة وعاجزة حتى عن الحركة. كان لدي أمل كبير بأن أعود للحركة والسير مجدداً، ولكن الأمر لم ينجح بسبب بروز عظم في الساق منعني من تركيب الطرف الصناعي، وهنا اقترح الأطباء أن أخضع لعملية بتر أخرى كي أتمكن من تركيب الطرف، شعرت بخيبة أمل، وأنني لست سوى امرأة هشة تزاورها الأقدار، فكيف لي أن أفقد جزءاً آخر من قدمي، آلا يكفيني ما خسرته من جسدي؟

في النهاية خضعت لمشيئة القدر، وأجريت عملية البتر وودعت الجزء الذي يعلو الركبة من ساقي، خرجت من المشفى وعدت لسيرتي الأولى منذ لحظة سقوط البرميل عندما كنت في حلب، فرضت على نفسي نوعاً من العزلة الاجتماعية، والتزمت  الصمت، ولم أخرج من صمتي إلا عندما ركبت الطرف الصناعي في مركز “خطوات الإرادة” في مدينة غازي عنتاب التركية، وأصبح مقاسه مناسباً لمقاس ساقي بعد البتر الثاني.

لم أصدق نفسي! فلأول مرة بعد سنة ونصف أعود للسير مجدداً، وبمساعدة الأطباء مشيت بضع خطوات في إحدى غرف المركز. شعرت وكأنني أملك الكون، فها أنا أمشي! ولكن فرحتي لم تكتمل، ففي نفس اليوم تم نقلي للمستشفى ومكثت مدة 18 يوماً، حيث سببت الصفائح الحديدية “البلاتينيوم” التهاباً في قدمي اليسرى، وهددت هي الأخرى ببتر قدمي، ووجدت نفسي في غرفة العمليات مجدداً، أعيش ذاك الشعور الخانق من إجراء العمليات الجراحية، والقلق الدائم من أن أرحل خلال إحدى هذه العمليات وأترك أولادي وحدهم. وبعد أن تماثلت ساقي اليسرى للشفاء تماماً، راجعت المركز لاستكمال تدريبي على استخدام القدم الاصطناعية في ساقي اليمنى.

لا أنكر أنني ما زلت في طور الاعتياد على هذه الساق الصناعية ولكن عزيمتي كأم في تدبر أمور أولادي ورعايتهم تدفعني للاعتياد عليها، مستخدمةً العكاز في يدي من ناحية، وبمساعدة أولادي لي من ناحية أخرى، ولا أنكر أنني في أحيان كثيرة أتعثر، وأكاد أن أقع، ومع ذلك أعتبر حالي الآن أفضل بكثير مما كنت عليه قبل سنة ونصف.

  اللوحة للفنان: مهند عرابي

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

One Response

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »