Search
Close this search box.

حبل سري يربط  السوريين بالهواتف  الذكية

حبل سري يربط  السوريين بالهواتف  الذكية

 سحر حويجة

إحدى العلامات الفارقة، التي ميزت اللاجئين السوريين الهاربين من الموت إلى أوروبا، تاركين وراءهم كلّ شيء، إلا ثياباً يحتشمون بها، وجوّالاً سُمي ذكياً. جوال أثار اهتمام سكان البلاد المضيفة وإعجابهم وتعليقاتهم، كما تناقلت وسائل الإعلام، والتواصل الاجتماعي، كيف أن لاجئين قطعوا عشرات الكيلومترات مشياً على الأقدام مغامرين بحياتهم، يصلون غير قادرين على حمل أجسادهم، من التعب والإرهاق ومشاق السفر، خالين إلا من جوالهم. سوريون من كلّ الأعمار شباباً أم شيباً، أطفالاً، نساءً ورجالاً، قيل الكثير من الكلام عن ذلك، دون ملامسة سرّ علاقة السوري مع الجوّال الذكي.

بالنسبة للأوربيين، يعدّ الجوّال الذكيّ أحد مظاهر الرفاهية، ويحتاج استخدامه إلى القدرة على التعامل مع التكنولوجيا الحديثة المعاصرة، شروطٌ لا يمكنهم تصوّر توفّرها عند أغلب اللاجئين، هذه الظاهرة أعطت فكرة إيجابية عن تقبّل السوريين للعصر وعن إمكانياتهم المادية والذهنية.

لكن فكرة الأوروبي هذه تبدو غير مطابقة للواقع، أو مفصولة عن سياقها، لأن للجوّال حكاية أخرى ترتبط بمعاناة السوريين وحاجاتهم الأساسية، التي ولّدتها الحرب الدامية.

فعلى الرغم من انتشار الجوّال في الأوساط الشعبية في سوريا، قبل الثورة بسنوات، بحيث لم يعد حكراً على نخب اجتماعية تتمتع بإمكانيات ماديّة خاصة، غير أن خدمات الجوّال كانت محدودة تتلخص: بكاميرات تصوير، ملفات أغاني وألعاب، إضافة للاتصال والتواصل. وقد حاز الجوّال على اهتمام الشباب والمراهقين، في الوقت الذي شكّل عبئاً على الأهالي، بسبب سعره المرتفع وما يضيفه من مصاريف لا طاقة لهم بها، حتى اضطرّت المدارس لوضع حدّ لذلك ومنع الطلاب من إدخاله إلى المدرسة. أتذكر جيداً الأحاديث التي كانت تدور بين الأمهات المعترضات على حمل أولادهم المراهقين للجوّال عندما تحوّل إلى صرعة. لم يتقبّله كبار السن، كما وجدوا صعوبة في التعامل معه. ويتميز نوع الجوّال بحسب الوضع الاجتماعي لمستخدمه. كان الخلاف يدور حول جدوى استخدام الجوّال، وكان الرأي السائد حينها أنّه يجب أن يقتصر اقتناؤه لتسيير الأعمال. قد يحتاجه التاجر والمحامي والطبيب وغيرهم … أما كوسيلة للتواصل الاجتماعي فلم يكن مستحباً، بوجود الهاتف الثابت، ذي التكلفه المنخفضة، قياساً بالجوّال.

ومع الحراك الثوري في سوريا، دخلت أجيال من الموبايلات الذكيّة إلى حياتنا، حيث تم استخدامها في تصوير الأحداث، ورصد الانتهاكات من اعتقال وضرب وإطلاق الرصاص الحي، ومع تطوّر الأحداث وانتقالها إلى الاقتتال والصراع الدامي، الذي كان نتيجته تشريد السكان من بيوتهم. كان أمراً لافتاً أن ترى مشرّداً أو حتى متسولاً يحمل بيده جوّالاً، وقد سمعت أكثر من مرّة تعليقات من قبل موالين للنظام في سياق حوار أو حديث ما، كيف لهؤلاء أن يشكوا الفقر والتشرّد ويدّعون الحاجة، ويحملون جوالاً غالي الثمن؟ إنهم مخادعون كاذبون.

نعم أصبح للجوّال أهمية كبيرة في حياة السوريين مع زيادة التشرد والنزوح، ومع تزايد خوفهم على بعضهم، أصبح الجوّال ضرورة حياتية هامة لكلّ شخص، فهو الوسيلة الوحيدة لاطمئنان الأهل على أولادهم، والزوجة على زوجها وعلى الأصدقاء والأقارب، في حال تأخر وصولهم، بسبب أزمة المواصلات والوقوف طويلاً أمام الحواجز، أو عند سماع انفجار وضربات مفاجئة للطيران.

وبعد أن نزح السوريون وتركوا بيوتهم نتيجة الاقتتال والقصف المدمر، حيث أصبحت العائلة الواحدة مشتّتة بين عدّة بلدان لجوء وتباعدت أواصر الصداقة والجيرة، وانقطعت الاتصالات بين المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، وبين المناطق التي مازالت تحت السيطرة، فشكّل الجوّال، وخدمات التواصل المرتبطة به مثل الواتس آب والفايبر بديلاً مهماً، وأصبح ضرورة حياتية لكلّ مواطن سوري، بل من أهم الحاجيات له، لذلك ليس عجباً أن تجد شحاذًاً يحمل بيده جوّالاً ذكياً،

مع موجات الهجرة الكبيرة الواسعة إلى أوروبا أصبح الجوّال فعلاً زاداً للسورين، فهو أهمّ شيء يملكه في ترحاله وتشرّده من أجل التواصل مع المقربين منه للاطمئنان عليهم، وهو في طريق سفره إلى أوربا في رحلة الانتظار، وركوب الموج والسير على الأقدام، لا يتوقف عن استخدام هذه الوسيلة التي أصبحت اكتشافاً عظيماً ورحيماً بالنسبة للسوريين.

ومع ما آلت إليه الأحداث، تزداد أهمية هذه الآلة الصغيرة في تواصل البشر مع بعضهم. ففي الوقت الذي لم يعد الجوّال العاديّ يفي بالغرض، كان لا بدّ من ضرورة اقتناء جوّالٍ ذكيٍّ، والذكاء الخارق أيضاً. يجتهد في هذه الظروف السوريون كباراً وصغاراً شيوخاً وأطفالاً للتعلّم على الجوّال، حتى أنه صار مرغوباً لدى الأهل أن يملك أطفالهم الصغار جوّالاً، ليطمئنوا عليهم في طريقهم، وأثناء وجودهم في المدارس، أو في البيت في حال خرجت الأم للعمل أو لشراء حاجات المنزل. القلق السوري الدائم والخوف المستمر نتيجة الحرب الدائرة، أعطى للجوال مكانة خاصة ومتميّزة في حياتهم، حتى الأميّون من السوريين اضطرّوا لتعلّم لغة العصر هذه، في سبيل أن تسمع الأم صوت ابنها، أو تتكلم معه صوتاً وصورة عبر خدمات الجوال الأذكى. نعم شكّلت سنوات الحرب دافعاً قويّاً ليتعلّم السوريون لغة ذكية، ويفكّكون أسرارها مهما كان مستوى تحصيلهم العلمي، ومهما كانت أعمارهم، فهم لا غنى لهم عنه. ويمكن تصور مدى الجهد المبذول بالنسبة لبعض المستويات وبعض الأعمار.

من المظاهر الاعتيادية اليوم في سوريا، عندما تستقلّ حافلة للركاب أن تجد أغلب الركاب، حتى الواقفون منهم يتسمرّون أمام أجهزة الجوّال ويتواصلون عبر خدماته، الواتس آب أو الفيس بوك وتسمع إشارات الرسائل، وانهماك الناس في الردّ، على الرغم من المرسوم الأمني، المعروف لدى الجميع الذي يقضي بمصادرة الجوّال في حال تمّ استخدامه قرب الحواجز. غير أن الجوّال يكسر حالة الملل من الانتظار الطويل على الحواجز، حيث يتمّ تخبئته في اللحظات الحرجة، كثيرة هي الحوادث التي تمّ فيها مصادرة الجوّال من قبل حراس الحاجز، وسبّب لهم مشاكل، وبعضهم اعتقل نتيجة ذلك. وفي حال اعتقل الأمن شخصاً ما يعدّ الجوّال من الوثائق الهامة لإدانة ذلك شخص.

إذن من أجل ردم المسافات، التي فرضها واقع الهجرة والنزوح، ومن أجل جمع المعلومات وإيصالها، أصبح الجوّال يحتل مرتبة أولى، واهتماماً كبيراً في حياة السوريين، كما أن محلات خدمات الجوّال وصيانته المنتشرة على نطاق واسع في سوريا، تعدّ أحد المصادر الهامة لتأمين معيشة عائلات كثيرة.

أتذكر جيداً كيف كان بعض المثقفين يرفضون استخدام الموبايل لأنهم يعتقدون أنّهم يقدمون خدمة لسيرياتل، مؤسسة رامي مخلوف وبقرته الحلوب، كي لا يساهموا في زيادة أرباحها، أما اليوم فلم يعد هناك قيمة لهذه المسالة أمام أهمية هذه الخدمة وحاجة السوريين الماسة إليها. حتى أصبحت قيمة لهم وإشارة إلى تقدّمهم واندماجهم مع العصر، في نظر الشعوب الأخرى.

اللوحة للفنان: محمد الوهيبي

 خاص “شبكة المرأة السورية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »