Search
Close this search box.

أقبح من الحصار… تجّاره

أقبح من الحصار… تجّاره

بشار عبود

يتفنّن المصور المحترف بالتقاط صور لأطفال موتى، عيونهم جاحظة وعظامهم بارزة من تحت لحمهم، ألقت بهم أقدارهم داخل هذا المُنقلَب من المأساة والألم.. وتتفنّن وكالات الأنباء باستعراض صور لنساء يطبخن على نار الحطب، ليس ما لذّ وطاب من الطعام على طريقة البرامج السياحية، أو كنوع من السيران على الطريقة التي ألفها أهل البلدة وإنما لأن الجوع فتك بهنّ وبأسرهنّ.. وتتفنّن شاشات التلفزة بنشر فيديوهات وصور محترفة في الوضوح لرجال يلتفون حول النار، ليس رغبة منهم في التوحّد مع طبيعة مدينتهم الجميلة، بل لتخزين حزمة من الدفء علّها تقي عظامهم التي اخترقها البرد القارس.

ولا يفوت المصوّر المحترف أيضاً أن يصور أفلاماً يخلّد فيها لحظات الصمود لسكان مضايا الـ 40 ألفاً وهم يعبّرون عن سخطهم من قبح العالم الذي تركهم يلقون الجوع والحصار على يد عصابات الأسد ـ حزب الله، الحاقدة والتي لا تعرف الرحمة طريقاً إلى قلوبهم.

ومن يشاهد كل هذا الوجع، وهو جالس خلف شاشة تلفزيونه أو كمبيوتره يتناول ما لذّ وطاب من الطعام، يقدم وجهة نظره تجاه هذا الألم ويقوم بإصدار فتواه على ما يحدث في مضايا وأهلها، فنرى هذا يرعد ويزبد على شاشته متوعداً بردّ الثأر، وهناك آخر يتباكى ويعلن عجزه ويذهب لمناجاة الله لإنهاء هذا الوجع!.

غير أنّ الصور الأهم التي لم يتمكن أحد من التقاطها، أو بالأصح لم يرغب صناع الإعلام والسياسة في نقلها والتعامل معها، هي جريمة كذب ونفاق الكثير من تجار المعارضة السورية الذين يتفنّنون بإدارة الأزمات، والاستفادة من كل حصار وتجويع مهما بلغت قسوته أو طال أمده، لا بل على العكس نراهم يمعنون أكثر في إطالة عمر الحصار لما فيه من بوابة لتحصيل أرزاقهم ولو جاءت على أطباق من صفيح الدماء!.

عشرات المعارضين الذين نعرفهم بالاسم تاجروا بموتنا.. تاجروا بعظام أطفالنا وهي تكاد تخرج من جلودهم.. تاجروا بدموع عجائزنا وهم يقتاتون على لحم القطط.. هؤلاء الأشاوس رأيناهم كيف ركبوا ظهر الثورة من قبل، نراهم اليوم وهم يمتطون ظهر آلام البسطاء بلا أدنى خجل ويعلنون “كذباً”، أمام الملأ، عن إيصال مساعدات لأهالي مضايا ويتبادلون الشكر مع بعضهم البعض لما قدموه من طعام للجائعين، ليأتي الجواب سريعاً من أجواف وبطون أهالي البلدة، بأنه لا مساعدات ولا إغاثة من أي نوع وصلت إليهم. فأيّ منحدر وصل إليه هؤلاء، وأي إسفين دقوه في هذه الثورة.

مضايا ليست هي المرة الأولى التي يتسابق فيها التجار لاستثمار الحدث.. فقد سبقها تراكضهم على حصاد ثمار حصار الغوطة ومخيم اليرموك والوعر، والقائمة تطول من المدن التي أصبحت مصادر لجشعهم وبؤسهم، ففي كلّ حصار يتسول هؤلاء التجار على أجساد الضحايا، ويتسابقون من يكون الأسرع في دخول قائمة أمراء الحروب في هذا الزمن السوري الدامي.

الحروب قذرة كما وصفها الفيلسوف والشاعر الفرنسي بول فاليري، والتي قال عنها بأنها “مجزرة تدور بين أناس لا يعرفون بعضهم البعض، ولحساب آخرين يعرفون بعضهم البعض ولا يقتلون بعضهم البعض”، لكن الحصار والتجويع أكثر رعباً أيها الفيلسوف، وأكثر ألماً، فهو يقوم على أسس الانهيارات في كل شيء، في الأخلاق وفي القيم وفي الإنسانية.

الحصار لا يقوم قبل أن يستسهل الأقوياء سفك الروح قبل الدم، وتهديم بنية الإنسان وإدخالها في جو الرعب قبل الموت.. الحصار يقوم على كل ما تهدّم مسبقاً، فتجد نساءً يلتحفن صقيع البرد.. ورجالاً فقدوا الشهيّة للحياة، حتى صار الموت بالنسبة إليهم “عملاً شاقاً” كما كتب خالد خليفة في روايته الأخيرة.

عرّتنا هذه الثورة أيها الفيلسوف الفرنسي.. كشفت عن هزالنا وعن بؤسنا وعن فسادنا، كشفت عن أنها سمحت لهؤلاء التجار أن يتحدثوا باسمنا رغماً عن أنوفنا.. كثيرة هي الأسئلة التي كشفت عنها ثورتنا، لكننا وإلى الآن لم نتعرف إلى الإجابة عليها لنعرف أين ستؤول مصائرنا.

إذا كانت عصابة حزب الله قد استطاعت محاصرة مدينة كاملة مثل مضايا رغم صعوبة حصارها وهي المعروفة بوعورتها الجبلية، ألا يحق لنا أن نعرف من هم التجار الذين تآمروا وسهّلوا هذا الطوق المُحكَمْ طوال هذه المدة؟؟؟ ألا يحقّ لنا أن نقول لهم ما هو الثمن الذي تقاضوه من أجل السماح بتجويع سكانها المدنيين؟؟ ألا يحق لنا أن نسأل جيش الفتح و حركة أحرار الشام والفصائل الإسلامية المسلحة عن دورها فيما حدث ولا يزال، لو لا أن موت السورييين أصبح أحد أهم مصادر الحصول على مالهم الفاسد مثلهم أسوة بالنظام الذي يحاربونه.

كثيرة هي الأسباب التي أدت إلى عزلة ثورتنا السورية عن أي دعم وبعد أقل من عام واحد على انطلاقتها، لكنها تكاد تتبلور بالدرجة الأولى في انعدام كامل لوجود معارضة تفتقد الحد الأدنى من فرض احترامها على العالم، وانعدام شبه كامل لوجود رؤية سياسية وخارطة طريق واضحة المعالم، وانعدام شبه كامل لخطاب وطني جامع يعبّر عن آمال الشعب السوري في حريته وكرامته وعدالته الاجتماعية.

هذا الخلل مهّد الطريق أمام فصائل وأحزاب وأمراء حروب إسلامويين، قرروا تقزيم أهداف الثورة وحصرها بمقاسات تلائمهم وتتفق مع منتوجهم الفكري الضحل، وإذا ما أردنا إعادة الاعتبار لقيم ثورتنا التي انطلقت في آذار 2011، فلا بد أن يتم تكنيسهم من أرض الثورة أسوة بتكنيس سوريا من النظام المجرم الذي فرّخهم.

 خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »