Search
Close this search box.

في البحر … قبور جماعية

في البحر … قبور جماعية

نور – أمستردام

وصلنا إلى مدينة بودروم التركية، والتي تعتبر المعبر الثاني للقوارب المطاطية المتجهة إلى اليونان بعد مدينة أزمير. مشينا في شوارعها التي لا يغيب عنها مظهر السوريين الذين يفترشون الطرقات بانتظار موعد رحلتهم.
غصت الحدائق والأرصفة بالمهاجرين السوريين، ليس لقلة ذات اليد عن استئجار غرفة في فندق ما،  بل لامتلاء الفنادق بالمهاجرين من جنسيات مختلفة،  من سوريين وعراقيين وأفغان. وقف الرجال تحت  الشمس تاركين القسم المظلل من الرصيف للنساء والأطفال، فالطقس كان حاراً جداً في شهر آب.
وبصعوبة فائقة استطعنا أن نؤمن غرفة لشخصين فقط  في أحد الفنادق، وكنت برفقة أبي المسن صاحبي الحظ الوافر لنحظى بها، أما بقية المجموعة التي كانت معنا فقد لبثوا في الشارع عدة ساعات وهم يبحثون عن الظل ليتفيؤا به إلى أن تغيب الشمس.
وفي مساء ذاك اليوم الطويل تجمهر الكثير من الناس ممن حان موعد رحلتهم أمام باب الفندق، وبدأوا يفاوضون المهرب على الأسعار وعلى موعد الرحلة التي تغيرت تفاصيلها فجأة!

الإتجار بالبشر

كان المهربون أكثر الناس تحكماً بالمسافرين وخاصة في اللحظات الأخيرة لرحلة ما قبل  الموت  (فهم أسياد الموقف)، وستقول ضمنياً بأن هؤلاء ليسوا بشراً ولا يملكون قلوباً،
فهم يكذبون كثيراً، ويعدون المهاجرين بأن القارب (البلم) لن يحتوي أكثر من (24) مسافراً، وسيأخذهم الى أفضل الجزر اليونانية القريبة، ويصفون كل شيء على أنه بسيط وسهل ومريح،  وتبدأ الصدمة الأولى عند انطلاق القارب،  فتجد فيه ما يقارب (55) شخصاً  أو أكثر.
ولحسن حظنا أعلن المهرب أننا سننطلق في ذات الليلة أيضاً، فرحنا لأننا لن نمكث في الشارع ليوم آخر،  وبدأت نظرات الأمل والخوف بآن معا تعلو وجوهنا لأننا سنبدأ مغامرتنا  .استعدينا للرحلة، وغلفنا أجهزة الهواتف المحمولة وجوازات السفر والأشياء الثمينة بغلاف بلاستيكي لحمايتها من البلل في حال تعرض القارب للغرق.
لم أحتمل فراق والدي الذي جاء معي وودعني عند مكان رسو “البلم” وبنفس الوقت ليكون طرفاً ثالثاً تودع معه أموال المجموعة، ويعطيها للمهرب عند وصولنا للجزر اليونانية بسلام ..

بدا المهربون كسلسلة من المافيات قاموا بتقسيمنا على شكل مجموعات تبعاً للأسماء ونقلونا إلى فندق آخر، حيث تجمعنا بانتظار لحظة الانطلاق المرجوة، وبقينا زمناً طويلاً كأنه دهر، ونحن لا نعرف ما الذي ينتظرنا هناك.

بعد ساعات عدة،  جاءت سيارة كبيرة (براد شحن)،  وركبنا فيه  ما يقارب (53) شخصاً،  وأغلب المهاجرين معنا كانوا عائلات، تتراوح أعمار أطفالهم ما بين الأربع سنوات وحتى الأربعة أشهر.
احتضنت النساء أطفالهن إلى صدورهن بخوف،  في عتمة السيارة التي كانت مظلمة تماماً في الخلف، فلا أحد يعرف من يجلس أمامه ومن إلى جانبه  ولا يُسمع سوى صوت بكاء الأطفال، بينما تحاول الأمهات إسكاتهم، لكن بلا جدوى.
تلمس في عيون الجميع شعوراً يتراوح ما بين الخوف من المهربين والخوف من مصير مجهول ينتظرنا، وللحظات ضاقت السيارة وكأنها قبر جماعي، لتشعر بتناقص الأوكسجين بداخلها، غير أن هذا الشعور تلاشى فور توقف السيارة.

النساء والأطفال لقمة سائغة للمهربين

فُتح الباب ، وطُلب منا النزول من السيارة من دون إصدار أية أصوات،  وخاصة أصوات الأطفال التي زادت أكثر فأكثر. وصلنا الى الشاطئ،  حيث انتظرنا قسم آخر من المهربين من جهة، وخفر السواحل الذي كان يتجول باحثاً عن مهاجرين ليلقي القبض عليهم من جهة أخرى.

نزلنا من السيارة، وكان علينا أن نسلك طريقاً وعراً لنصل إلى المكان المحدد من الشاطئ، غير أن جرفاً عالياً ظهر أمامنا وكان علينا أن نعبره، حيث نزل الرجال بسهولة مستعينين بخشونة وطول قاماتهم،  أما أنا فلم أستطع أن أتحكم بخطواتي بسبب المنحدر الشديد الذي واجهني،  فوقعت على رجلي، وشعرت بألم لم أشعر به من قبل، كتمت صوت الألم في صدري خوفاً من غضب المهربين، بينما وقفت خلفي امرأة تحمل طفلها الرضيع،  حيث أن حركتها أصعب من حركتي، فهي تمسك طفلها بيد وباليد الأخرى تتحسس الطريق متحدية المنحدر والظلام ، فوقعت هي أيضاً، ومكابدةً على نفسها كي لا تصرخ ،  ولكن رضيعها يبدو أنه اصطدم بشيء ما وتألم وصرخ وبدأ بالبكاء، فهرع إليها أحد المهربين، وبكل قسوة  أخذ منها الطفل، فانقض زوجها – الذي كان يضم ابنتيه الصغيرتين – وتناول طفله من بين يديه وحاول أن يسكته، وراح يغلق فمه بشدة،  ولوهلة أحسست أن الطفل اختنق.

أعجز عن وصف ذاك المشهد، فالأطفال والنساء سيظلون ضحايا الحرب وضحايا المهربين، ورحلتنا كانت تحوي الأطفال والمسنين والنساء أكثر من الشباب.

رحلة الموت

لبسنا ستر النجاة ونفخ المهربون القارب المطاطي، حانت ساعة ركوبه، خفت قليلاً قبل أن أصعد إليه، ولكن كان علينا أن نكمل ما بدأنا به. صعدت النساء أولاً وسط غضب المهربين وإصدارهم للأوامر بأن لا نصدر صوتاً، وأن نمتثل لكل ما يقولونه من دون نقاش، أخذوا الحقائب الثقيلة  ورموها على الشاطئ خوفاً من أن تثقل على القارب.

جاءت الأوامر بأن تجلس النساء في منتصف القارب وأن يجلس الرجال على الأطراف، جلسنا كلنا مع الأطفال في المنتصف وانطلق القارب. شيء من الهلع سيطر علينا، بدأت النساء بالدعاء والرجال بدؤا يقيسون مسافة الوصول الى الجزيرة.

انطلق القارب …

كنت أجلس بوضعية القرفصاء، لم يكن هناك مجال لأن أعدل جلستي، فالقارب ازدحم بالركاب، في حين جلست أمامي امرأة تضع رضيعها في حضنها وعلى رجلها تجلس طفلتها ذات العامين. هذا حال بقية النساء كن يضعن أكثر من طفلين في حجرهن. سمعت واحدة منهن تقول لم أعد أحس بقدمي، تخدرتا كلياً، ساعة كاملة ونحن بدون حركة، في الواقع أناً أيضاً تخدرت قدماي، لم يكن هناك مجال لأن نقف أو نعدل جلستنا وإلا سيميل القارب .

انطفأ المحرك فجأة، وبدأ الماء يدخل إلى القارب بسبب علو الموج. نحن النساء أحسسنا به لأننا كنا نجلس وسط القارب. بدأ اللغط يعلو، هذا يصدر أوامر للسائق بأن يحاول أن يشغل المحرك وإلا غرق القارب، والثاني يدعو الله، وهذه تمسك بأطفالها وقد أصابها الهلع.

بدأ الماء يتسرب الى القارب، أحسست بساقيّ تتبللان، وجهت عيوني إلى السماء، وصوت في داخلي ينبئني بنهايتي، بنهاية الحياة، شعرت وكأن الموت يتلاعب بالبلم، فالكل يلزم الصمت ووجل ينتظر معجزة ما، والسائق وحده يحاول مع المحرك ولا أحد يجرؤ على أن يكلمه كي لا نشغله عن عمله. بعد خمس دقائق بدأ المحرك يعمل من جديد، لتكتب لنا النجاة، وبقينا على هذا الحال ففي كل مرة يتعطل المحرك أشعر بدنو الموت، حيث تعطل المحرك ثلاث مرات خلال الرحلة التي دامت ساعة كاملة، إلى أن لمحت من بعيد خيال جبل معلناً قرب وصولنا إلى شاطئ النجاة.

ما إن توقف القارب الى جانب جزيرة جبلية صخرية إلا وبدأ الجميع ينزل من القارب. كان العبء الأكبر على النساء، لن ينزلن لوحدهن، هناك مهمة حمل الاطفال.  أخذت بيدي طفلة وحملت أخرى ونزلت بها الى الشاطئ، كانت ملابسنا مبللة وكنا متعبين.

 الطرقات غصت بالمهاجرين

مشينا قرابة ساعة قاطعين المسافة الوعرة في الجزيرة لنصل الى محل مأهول بالناس. كانت بانتظارنا صحفية إيطالية تعمل كمتطوعة على الشاطئ، تساعد الواصلين بتأمين ما يحتاجونه فور وصولهم للجزيرة اليونانية. جلسنا قرابة عشر ساعات ننتظر أن تأتي سفينة لتنقلنا الى جزيرة أخرى نستطيع أن نحصل منها على ما يسمى بـ (الخارطية) كي نتمكن من اجتياز اليونان إلى مقدونيا.

وبعد أن وصلنا إلى الجزيرة الأخرى أنتظرنا أسبوعاً كاملاً كي نحصل على (الخارطية) غير أن الفنادق كانت ممتلئة، مما دفع بالناس لأن تفترش الأرصفة قرب الشاطئ لتستقر فيه سبعة أيام. كان أسبوعاً شاقاً، أكثر من تعب فيه النساء والأطفال، فقد تعرضوا للشمس الحارقة نهاراً وللنوم على الأرصفة بين القطط والكلاب ليلاً، واستخدام مياه البحر لغسل ملابسهم.

أما انا ومجموعتي فلم نيأس من البحث عن فندق ولو في مكان بعيد، بقينا  طوال اليوم الذي وصلنا فيه ونحن نبحث عن فندق، ووجدنا أخيراً فندقاً صغيراً بعيداً جداً عن مركز الجزيرة ولكن كان أفضل من البقاء في الشارع.

وبعد أسبوع تلقينا اذن السفر أو (الخارطية) وانطلقنا إلى أثينا.

اللوحة للفنان: Gunduz Aghayev

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »