جداريات

جداريات

 لونا وطفه 

لا أدري كم يجب أن أبذل من الجهد لأتجاوز عثرات الذاكرة وإعاقتها التي أكاد أوقن أنها أصبحت إعاقة دائمة بعد ثلاثة عشر شهراً في ذلك العدم، في أحايين كثيرة تكون مجرد خيالات.. أو أطياف تمر صامتة كي لا تُقلق راحة الضجيج الممتلئ بي، أدور كدرويش في دوامة ثقبي الأسود بثوبٍ محاكٍ من تواريخ وأسماء وعبارات رتّلها ناقشوها صلاةَ غائب في غياهب العدم.

الجدار الأوّل

بابٌ حديدي بطول مترين وعرض متر، يأكل الصّدأ بعض زواياه الحادة كلوحة سوريالية دلالاتها “عبثية الصوت والصمت”، ينبيكَ صريرهُ حين يُفتح عن استعداده لابتلاع معتقلة جديدة ليعيد تنشيط هاجسك الذي – ما لبث أن هدأ- للتفكير بالمساحة الإضافية التي سيخسرها جسدك الآن وكيف ستعيد توزيع البطانيات العسكرية لتكفي الجميع مهاداً ودثار. زاد عدد المعتقلات وقلّت البطانيات ولم تأتِ رجاءاتنا المتكررة لزيادة البطانيات بنتيجة تُذكر. ردّ العنصر الأمني ذات رجاء حين وصل عددنا لعشرين معتقلة في ذلك المهجع ذي الخمسة أمتار مربعة: “وعم تعترضوا كمان؟ انبسطوا انكم لساتكم 20 هالمهجع بيسع 40 برياحة!”. كان ذلك في الشهر الثاني 2014، والبرد في ذروة سطوته، ينتشي بمذاق عظامنا ويعرّش على ندباتنا، أعدنا توزيع البطانيات فكان نصيب كل ثلاثة نساء بطانية واحدة، بعد أن كان لكل اثتنين منهن بطانية. لا زال وبر تلك البطانيات يصيبني بسعالٍ حادٍ و مضنٍ.

على يمنة الباب يمتد الجدار الأول حتى باب الحمام، ولا بد من التنويه هنا أن  “وجود حمام في المهجع يعتبر رفاهية كُنا نحسد عليها”. لهذا الحائط الصغير الممتد بين البابين بعرض نصف متر تقريباً و طول سنين من دمع النساء القدرةُ على إسماعك أصوات بكائهن عبر شقوقه التي حَفظت ما يمكن لعينيك أن تراه تاريخاً.. اسماً.. بقايا عواميد متحاذية حفرتها أناملهنّ باتت كأنها أعواد ثقاب مطفأة تحصي عدد ليالي القهر. “بشرى + يارا + منى لا تنسونا 19/6/2013”.. عبارة توسطت الحائط وبدا أنها استغرقت جهداً كبيراً بالنظر إلى حجمها وإلى أجزاء الطلاء الأبيض المتساقطة والذي حولت سنوات القهر لونه إلى السكري الغامق.

يرتفع باب الحمام  بمقدار شبر واحد عن الأرض، كثيرات اضطررن إلى النوم تحت هذا الباب عند ازدحام المهجع مما جعلهنّ عرضة للدوس عليهن عن طريق الخطأ أو العجلة إذ ينادي عنصر الأمن إحداهن فتهرع لأخذ حذائها قبل أن يمطرها بوابل إهاناته،و يتوسط باب الحمام فتحة خشبية تحاكي تلك الموجودة في باب المهجع. لم أفهم الغاية منها سوى أنها استكمال لديكور أراد مصممه التذكير على الدوام بالفتحات الضيقة والأصفاد. ثمة كلمات كثيرة حُفرت على صفحة هذا الباب إلا أن الطلاء المقشور لا يسمح بقراءة كل ما كُتب، لكن “حرية” كانت كلمة كأنها الباب كلّه، مادّته التي استعصت على عوامل الرطوبة والحرّ وبقيت. خلف الباب مكان ضيق مخصص للأحذية إذ لا يتسع المهجع لها، يعلوه صنبور ماء لا يكف عن البكاء ليملأ أحذيتنا ماءً وصقيعاً، وإلى جوار الصنبور نضع ما يجود به علينا القائمون على المكان من سائل التنظيف وبعض الصابون، وأخيراً خلاط مياه واحدةٌ من قبضتيه مكسورة، يفتك صوت الماء المتدفق منها بأعصاب النزيلات إلى أن تطوعت إحدى الفتيات بحجاب رأسها لنلف به ذلك المقبض، ونقتل واحداً من أسباب مراراتنا خنقاً.

يتصل الصنبور عبر ماسورة طويلة بمرش الماء، وتوجب علينا كي نستحم أن نقف فوق فتحة المرحاض التي تتوسط الحمام الذي لا يتجاوز طوله متراً واحداً وعرضه النصف متر. على يسرة الماسورة شباك صغير ذو سياج حديدي تكدست عليه طبقات غبارٍ أسود حالت طويلاً بيني وبين بصيص نور خافت كنت ألمحه من خلالها، أزلتها بيدي وأظافري بعد فترة ليست بطويلة لأميز مصدر الضوء وقد كان عامود إنارة لحارة قريبة غطى جزءاً من المشهد بينما غطى الباقي شباكُ منزل مجاور له أكاد أرى جزأه السفلي فقط. ذلك الحيز الضيق للغاية كان عالماً فسيحاً لا حدود لمداه بالنسبة لي، رأيت حياة تستمر دوني، استشعرت وهج النهار من فتحة بحجم أنملة، وبالكاد تطأ عتبة مسامعي بضع ترتيلاتٍ من آذان جامع الفردوس الذي يتوسط ساحة التحرير القريبة من فرع الخطيب. لو أمكنني لما غادرت زاوية ذلك الشباك رغم صعوبة الوصول إليه، غير أن وجوده في الحمام لا يمنحني سوى بضع لحظات أسترق فيها النظر كل يوم لأطمئن على عمود إنارة وربع شبّاك  ينبضان رغم جمودهما بحياة أصبحت بالنسبة لي حلماً بالكاد ألامسه برؤوس اختلاساتي.

ليس اختناق مساحة المهجع سبباً أو مؤشراً على تقلص التفاصيل فيه التي لم أنتهِ منها بعد، فهي لا تكف عن التمدد واقتناص مساحات أوسع في الروح لتغدو ألماً ضاغطاً يدفع ذاكرة مُعاقة إلى الصراخ بجنون، ولغةً بليغةً نحو الصمت.

بابان وقطعتان من جدار يشكلان الحائط الأول للمهجع، قطعة الجدار الثانية والتي تلي باب الحمام وتتصل مع الحائط الآخر كانت فارغة إلا من تشققات وطلاء مقشور، لماذا لم يكتب أحد هنا؟ ربما بسبب زاوية الكاميرا الموجودة في المهجع.. لا أدري، وربما لأن فتاة حفرت في أسفل زاويته اليسرى بخط صغير جداً “غفران الحمدان 16/12/2012” و دون أي عبارة أخرى، تركت لامتداد الحائط الأبكم مهمة البوح بما لم تتجرأ على كتابته.

بين ما نقشه “أبو عمر” وما خطّته “أم الباشا” سردٌ يحفر أثلاماً على وجع الحكايا، ولتلك الحكايا.. بقية.

اللوحة للفنان السوري “عبد الرزاق شلبوط”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »