Search
Close this search box.

من أين ينبع العنف أيضاً…

من أين ينبع العنف أيضاً…

خولة سمعان 

تقول : لقد طفح العذاب، انكسرت قلوبنا، فقدنا بيوتنا وأماكن أطفالنا، خسرنا كل شيء وخرجنا نستغيث، نطلب النجاة لأولادنا ولنا، لكن… وتسكت!

في صمتها وفي صمت سيدات أخريات مثيلاتها قلوب طعينة، لقد طُعِنت مرتين على التوالي ودونما ذنب. فمن اللافت للنظر ازدياد عدد حالات الطلاق والزواج  بأخرى في السنوات الخمس الأخيرة، أي في هذه الفترة العصيبة التي تمر بها البلاد، فلماذا ؟ ما هي الأسباب والعوامل التي تساهم في انتشار هذه الظاهرة؟ ذلك أن الأسرة السورية استمرت لقرون تبرهن على تماسكها وترابط أفرادها حتى غدت في مصاف الأسرة المثالية، لانخفاض نسبة الخلل في المكون الأساسي لها ولتحقيقها الشروط والمعايير القياسية  في تمثيل الدور الوظيفي لها بكافة أفرادها.

لقد تم الحريق الذي أرادوه، حريق هائل يأتي على البشر والحجر والشجر، احترقت البلاد وقلوب الناس، وهذا ما نراه يومياً بصمت مخزٍ، كما عمت الفوضى والدمار واضطربت كل الموازيين، فكان لهذا انعكاساته السلبية على كل شيء، لكني سأتناول هنا تأثيراته على الأسرة، لن أتحدث عن المنازل التي دمرتها القذائف والصواريخ والمتفجرات فوق ساكنيها، ولا عن العائلات التي بترت أعضاؤها بتراً شنيعاً بفقدان الأب أو الأم أو أحد الأبناء أو أكثر من واحد منها. لن أتحدث عن تلك التي شوهتها الشظايا وأفقدتها عيناً أو ذراعاً أو قدمين، ولا عن الأطفال الذين شرّدوا في أرض الله فباتوا بلا أهل ولا بيت ولا مدرسة، حيث تحولوا إلى أطفال شوارع بحق. لا أتحدث عن حرمان الوطن من مستقبل أطفال كان يفترض أن يكونوا لامعين، هنا سأتحدث عن التصدع السيكولوجي الذي أصاب الأسرة التي كان عليها أن تبقى متماسكة بعد أن تمكنت من أن تنجو من القتل الدائر في البلاد، ما الذي يحدو بالكثير من الرجال بترك زوجاتهم والزواج بأخرى في الشتات وفي الداخل؟ في حزم النزوح البائس أو في مخيمات الشقاء؟

اختلال المعايير

كيف يقدم أب على تكديس الألم لزوجته وأطفاله؟ كيف يفعل ذلك بمحض إرادته؟ لماذا يقدم على طلاق زوجته أم أطفاله ويتزوج بأخرى في هذه الظروف غير العادية؟

إن تعدد هذه الحالة فيما حولي يحيلني إلى التساؤل والبحث في أسبابها ودراسة عواملها – قدر الإمكان – ولا سيما أن الظروف التي تحيط بها ليست ظروفاً صحية، مما يؤكد وجود اضطراب سيكولوجي عام يؤدي إلى اختلال في الضوابط والمعايير الأساسية التي تضبط النظام الأسري في بلادنا في الأحوال السليمة.

أثبتت الدراسات التي أجريت على عدد من البلدان التي شهدت حروباً ونزاعات مسلحة (مثل لبنان وراوندا والبوسنة و…) أن للحروب والعنف المسلح منعكسات صادمة على الأسرة بكامل أفرادها، وأنها – غالباً – ما تصب في حالتين أساسيتين يتفرع عنهما عدد غير محدد من السلوك أو التوجه النفسي، فهي إما أن تؤدي إلى زيادة التلاحم الأسري إلى حد الإفراط أو إلى تفكيك الأسرة، وللأسف إن كلا من الحالتين تؤدي إلى نتيجة واحدة: انهيار الأسرة.

في الحالة الأولى: يتمسك أفراد الأسرة بعضهم ببعض بدافع الخوف، وفي معظم الأحوال يتولى  هذه المهمة الشخص الأكثر سلطة وكفاءة وهو الأب في مجتمعاتنا، ولما كان الحرص على أسرته خليق ظروف مرعبة لذا يتشدد في تمسكه بأفراد عائلته وكثيراً ما يبالغ في حرصه على حمايتهم، مما يضيق الخناق عليهم بإفراطه بمراقبتهم ومنعهم من الخروج  وحرمانهم من ممارسة دورهم، فتتحول حالة الالتفاف والتلاحم إلى تضييق وقسر ومنع. كثيرا ما يبعث أفراد الأسرة البالغين والزوجة إلى البحث عن طريق للإنفلات من طوق الحماية المبالغ به، ويتم بهذا خروجهم من نطاق العائلة وهروبهم من جحيم الإختناق بدعوى الحماية والحرص اللذين يصبحان أشبه بالسجن، أي تصبح الأسرة سجناً مصغراً يقوم أحد أفراده بدور السجان، الأمر الذي يؤدي إلى نفس النتيجة: انهيار الأسرة. وهنا في هذه الحالة تتداخل المعطيات والظروف التي تقود إلى النتيجة ذاتها في الحالات الأخرى.

في جانب آخر – وهو الأكثر شيوعاً – تتضافر عوامل عديدة لها تأثيرها الواضح على الأسرة، فتؤدي إلى إختلال متفاوت النسبة في العلاقات الأسرية بشكل عام، كضعف التفاعل العائلي وارتفاع مظاهر العنف المادي والمعنوي. ذلك أن الضوابط الروحية والمادية التي كانت تحكم بنية هذا الكيان (العائلة) قد فُقدت – على الأغلب – وتقلصت العائلة ذاتها التي كانت تمتد هرمياً حتى الجيل الثالث الأسبق، فلقد أصبحت العائلة  مكونة من الأب والأم  والأطفال فقط. بعد أن هرب الجميع من سعار الحرب، وابتعدت أو غابت  المرجعية العليا ( الجد والجدة والعم والعمة والخال والخالة..) إن عملية تفكيك وتقليص تمت بشكل مفاجئ في هول العنف المخيف، دون دراية أو حتى اتفاق أو معرفة، وباتت العائلة المصغرة وحيدة في العراء، في المخيمات أو في عذاب النزوح، بلا بوصلة، بلا أعراف بلا أحكام ولا ضوابط وبلا رحمة.

صدمات الحرب

لقد أمِنت العائلة خوف القتل أو الفقد، لكنها الآن في معاناة التهجير تصدمها مؤثرات جديدة وقاسية، فإن معاناة التهجير لا تقل عسراً وعناءاً عن سواها من صدمات الحرب، حيث يسود شعور بالإقتلاع من المجال الحيوي الأصلي وفقدان البيئة المألوفة المطمئنة، والوقوع في عالم غريب، وقد يُضاف إلى ذلك  معاناة الإفتقار إلى مقومات الحياة الأساسية كما في حالة المخيمات أو النزوح إلى المدارس والمدن الرياضية والسكن الجامعي والحدائق.. والتي تلغي أهم شرط من شروط العائلة ألا وهو الخصوصية العائلية، مما يؤدي إلى اضطراب الضوابط الإجتماعية وتسيب في السلوك وضبابية المستقبل أو انعدامه وانسداد الأفق وشيوع حالة من القنوط واليأس ينجم عن ذلك قرارات متخبطة وتفكير عشوائي غير صائب إجمالاً كونه قائم على ردود الفعل.

كثيراً ما يؤدي الإنفلات من الضوابط الإجتماعية وسيادة حكم الفوضى إلى خلق مناخ ملائم لتنصل أحد الطرفين من مهامه ومسؤلياته الأسرية، وتُحال المهام والأعباء كلها على طرف واحد، الأمر الذي يخلق جواً من التوتر والنزاع والقهر والإرهاق ومن ثم الرفض، والذي يُقابل – غالباً – بالعنف المعاكس والكره، تتم تغذية هذا المناخ العنيف يومياً من الظروف القهرية المعاشة ومن الأخبار والمشاهد الدموية اليومية مما يهيىء أعراض تصدع ووانحلال عنيف وصادم، نابع أصلا من تفكك النسيج الإجتماعي ذاته، انطلاقاً من خليته الأولى  – الأسرة –

وتأتي ردة الفعل في كثير من الأحيان على شكل استهتار غير واع وغير مسؤول في مواجعة آلاف الحالات من اليتم والإعاقة والأرامل والأيامى، ولأن الحرب تنتج الآلاف من الأرامل والأيامى واليتامى يومياً، وتكرس ظاهرة العنوسة بسبب شراهتها إلى الشباب: وقود الحرب. فيستيقظ دافع حب الحياة ملازماً  حالة  الإستهتار كثنائي  ممتزج ومتداخل الأعراض والمظهر، ويسهل عملية التخلي عن المسؤلية العائلية ويبرر للأنانية التي تبحث عن ملذاتها الخاصة.

ومع انتشار القنوات الإعلامية ذات الصبغة الدينية وارتفاع الأصوات التي تحرض على التشدد المذهبي والفتنة الطائفية وتلبي فوران الغضب الناجم عن الوضع برمته، يزداد اللجوء إليها على أنها تمثل الدين القويم، أمل كل مظلوم ووجهة كل المغلوبين الذين سيلقون إنصافهم ومكافأة صبرهم باتباع تلك التعاليم المتشددة. وهذا ما يفسر وجهاً من وجوه اتساع رقعة التعصب الديني الطائفي المذهبي ويبين بعضاً من أشكال انغلاق الفكر، ويفسر سهولة الانقياد إلى ذلك:  الفتاوى التي تشجع على تعدد الزوجات بموجب الشرع وكواجب ديني أخلاقي يهدف إلى إنقاذ الفتيات من العنوسة والستر على السيدات اللاتي أضحين بلا معيل ولا سند !

علماً أن الأولى والأجدر إيجاد مصادر عمل ورزق لهن يمكنهن من القيام بأودهن والاستقلال بأنفسهن ومن ثم تقرير مصائرهن بذواتهن.

المسلسلات المدبلجة

وتأتي المسلسلات المدبلجة وما يماثلها كعامل إضافي لا يقل أهمية عن تلك القنوات، وذلك باعتراف العديد من الرجال ( هكذا فعلوا في المسلسل ) سواء بتعميم مشاهد محمومة من العلاقات الغرامية واستعراض الأزياء وربات الجمال، أو بتنشيط حالة نمطية قديمة غير معاصرة من العلاقات العائلية كما كانت الجدات وما سبقهن في القرن الماضي.. كل ذلك يخلق فجوة ما بين الواقع والمرئي، وبالتالي يقود إلى تصدع زمني يساهم في خلق الخلل في المعيشة التي تعاني من تهميش وانعدام التقدير والإعتبار والإحساس بأنها عبء على البشرية، يضاف إلى ذلك اضطرابات الخوف والهم المكبوتين والإختناقات المادية التي تعتري الأسرة في بيئتها الجديدة، ومن ذلك كله ينجم توتر وتسود العصبية وينعدم التفاهم، وأخيراً عدم قبول الآخر.

بموجب دراسة أجرتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر في ثماني دول خضعت للنزاعات المسلحة  our world views from the field ” “

تبين أن النساء أكثر عرضة للتأثر بالحرب، ومن أعراض ذلك : الشعور بالإكتئاب ( فقدان اللذة والإحساس الشديد بالحزن والوحدة والشعور بالتعب أكثر من اللازم والإنفعال السريع، ولهذا تقع على الرجال مسؤولية رعايتهن واحتوائهن واستيعابهن بدلاً من النفور منهن وتوجههم إلى أخرى.

وفي غياب أية جمعية أو مؤسسة مدنية تقوم بالإرشاد وتقديم الدعم النفسي والرعاية الصحية يستفحل الوضع ويتفاقم.

إن للطلاق أو استبدال الأم بسيدة أخرى تأثيرات سلبية عديدة وتداعيات خطيرة على الأم  والطفل، وقد يكون أبسطها  الإحساس بالنقص والخوف من المستقبل وانعدام السند والأمان والشعور بالوحدة، ولا بد من التنويه إلى أنه من شأن هذه المشاعر أن تتنامى لتتحول إلى دوافع عدوانية أو تمرد وعدم القدرة على التعامل مع الآخرين لتصل إلى أمراض حقيقية كالذهان والفصام واختلال العقل، وبإمكاننا الإنصات إلى أنين الأمهات خلف الأبواب الموصدة ونواح الأطفال ولوعتهم المضافة إلى آلام الرعب والحرمان.

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »