Search
Close this search box.

“أحبيني لأني كل من أحببت قبلك ما أحبوني” … الفقد في حياة السياب

“أحبيني لأني كل من أحببت قبلك ما أحبوني” … الفقد في حياة السياب

نبال زيتونة

في الرابع والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر عام 1964، غادرنا الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب، وانطفأت شمعة. كان من طليعة روّاد حركة الشعر العربيّ الحر، ومن القلّة المجدّدين، الذين أغنوا القصيدة العربيّة. غادرنا بعد رحلة حياة مريرة، طفحت بألم العوز والغربة والفراق والفقد، انعكست في شعره على مدى ربع قرن من الزمان.

هناك في جيكور قرب البصرة كان مولده، في أسرة فقيرة كمعظم أسر ذلك الريف، تنقّل بين جيكور وأبي الخصيب وبغداد لاستكمال تعليمه، وتخرّج في دار المعلّمين في بغداد. دخل معترك الحياة السياسيّة، فطاله السجن والنفي والطرد من العمل.

وهناك في جيكور بدأت قصّة الفقد، فقد الأمّ وجيكور والحبيبة، الذي لازم بدراً حتى طواه الموت. كان في الرابعة من عمره حين فقد أمّه، وتزوّج أبوه من امرأة أخرى فيقول مستحضراً معينه من الفقد، مستجدياً حبّ إحدى حبيباته:

أبي.. منه قد جردتني النساء
وأمي.. طواها الردى المعجل
ومالي من الدهر إلا رضاك
فرحماك فالدهر لا يعدل

وفي الثامنة عشرة من عمره، فقد جدّته التي ربّته وعاش في كنفها بعد وفاة الأمّ:

جدتي: وهي كلّ ما خلف الدهر..

من الحب والمنى والظنون..

جدّتي من أبثّ شكواي بعدك..

طواني الأسى وقلّ معيني..

الموت اختطف الأم والجدّة، والمرأة اختطفت الأب.. أيّ فقدٍ هذا الذي ابتلي به؟!.. وسيترك لاحقاً بصماته واضحةً على تفاصيل حياته اليوميّة، ويحفر خطوطاً قاسية على صفحة روحه الغضّة، كما ويغني تجربته الشعرية.. عطشٌ هنا وتجربة شعريّة ريّانة هناك.. “عطشٌ أنتِ يا أمي” كما يقول. هذا العطش هو مداد غناه الشعريّ..

المرأة الحبيبة:

أمّا المرأة الحبيبة فكان حضورها في شعر السيّاب إشكاليّاً، فهي حاضرة في نصّه غائبة عن حياته، يحبّها، يتغزّل بها حيناً، ويهجوها حيناً آخر، يشكو لها حاله مرّةً، ويستعطفها ويشتكي من غيابها مرّات، وقد استنفد عمره باحثاً عنها، وكلّما اقترب منها انزلقت من بين أصابعه كما الماء..

أحبّ بدر سبع نساء في بداية حياته دون أن يحببنه، فاكتفى باستحضارهن ومناجاتهن في قصائده..

وفيقة، هالة، لميعة، ناهدة، لبيبة، لمياء، أليس.. إضافة إلى أسماء نساء أخريات من الخيال.. كان الشاعر يرددها في شعره، أو يتمنى أن تكون حقيقة، لكنّه لم يحظَ بحبّ أيّ واحدة منهن، فكتب إلى لوك نوران الأديبة البلجيكيّة، التي أحبها في أخريات أيامه، قصيدته التي يعترف فيها بإخفاقه في الحبّ:

كيف ضيعتك في زحمة أيامي الطويلة

لم أحلّ الثوب عن نهديك في ليلة صيف مقمرة؟

إنه ذنبي الذي لن أغفره

وما من عادتي نكران ماضي الذي كانا

ولكن كلّ من أحببت قبلك ما أحبوني

ولا عطفوا علي، عشقت سبعاً كن أحيانا

ترف شعورهن علي، لتحملني إلى الصين

سفائن من عطور نهودهن،

أغوص في بحر من الأوهام والوجع..

فمنهن من فضّلت عليه رجلاً غنيّاً، ومنهن من لم ترق لها وسامته المتواضعة، وأخرى فضّلت حياة السهر والملاهي، حتى تلك التي ظن أنها شاعرة، وكان يبادلها الغزل في زورق في شط العرب، لم يجد عندها الوفاء:

وأقرأ وهي تصغي

والربى والنخل والأعناب تحلم في دواليها

تفرقت الدروب بنا نسير لغير ما رحمة

وغيّبها ظلام السجن تؤنس ليلها شمعه

فتذكرني وتبكي

غير أني لست أبكيها..

قلِقٌ هو، وروحه توّاقة لامرأةٍ تحبّه، لكنّ هاجس الفقد لا يفارقه، حاضرٌ في كلّ خلجاته، فيقول للبيبة أو لباب أو ذات المنديل الأحمر، التي تكبره بسبع سنين:

أراها غداً، هل أراها غداً

وأنسى النوى ، أم يحول الردى؟!..

وليست “وفيقة” حبيبة الشاعر في سنيّ شبابه الأولى، إلا حلقة في فصول تلك المأساة.. مرّ الزمن وعينا السيّاب معلّقتان على شبّاكها الأزرق، وفيقة التي غيّبها الموت في وقتٍ مبكّر، بعد أن تزوجت بغيره، وتركت وراءها طفلة صغيرة، فهو لا ينفكّ يرى فيها أمّه التي بكّرت في الرحيل وتركته لقدره:

شباك وفيقة في القرية

نشوان يطلّ على الساحة..

العالم يفتح شبّاكه

من ذاك الشبّاك الأزرق

لعلّه أبقى على شبّاكها مفتوحاً في مخيلته، ليطلّ على الحياة من خلاله.. لكنّ وفيقة غيّبها الموت، فأيّ حياة يروم؟!..

لوفيقة في ظلام العالم السفليّ حقل

فيه مما يزرع الموتى حديقة

ووفيقة لم تزل تثقل جيكور رؤاها

بين نهديك ارتعاش يا وفيقة..

صور حبيبات الشاعر تعود إلى الذاكرة، أو أنها لا تفارقه أصلاً، فيمسح بيده على صفحة روحه وذكرياته المفعمة بالفقد، ليجد فيهن الضوء الذي يلوّح له بالحياة، إنّه ضوء خافت لظلّ حياة، لكنّ لابأس من مطاردته..

هالة “الراعية” أيضاً في ذاكرة جيكور وأيام الصبا التي ولّت كما حياته المبعثرة على مفارق الموت:

يا نهر إن وردتك “هالة” والربيع الطلق في نيسانه

ولّى صباها، فهي ترتجف الكهولة، وهي تحلم بالورود

في حين أثقلها الجليد كأنّ نبعاً في اللحود

تمتصّ منه عروقها دمها، فقل لم ينسَ عهدك

وهو في أكفانه..

ويهجوها في مكان آخر:

آه فتلك باعتني بمأفونٍ

لأجل المال، ثم صحا فطلّقها وخلاها

ومن حبيباته أيضاً “لبيبة” التي تكبره بسبع سنوات، وتنتمي لطبقة اجتماعيّة غير طبقته المتواضعة، وقد أحبها ولم تحببه:

وتلك لأنها في العمر أكبر أم لأن الحسن أغراها

بأني غير كفء، خلّفتني كلما شرب الندى ورق

وفتح برعم مثلتها وشممت ريّاها؟

ولا يتوانى عن هجائها كلّما أحسّ بالألم:

وأمس رأيتها في موقف للباص تنتظر

فباعدتُ الخطى ونأيت عنها، لا أريد القرب منها هذه الشمطاء

لها الويلات.. ثم عرفتها: أحسبتِ أنّ الحسن ينتصر

على زمن تحطم سورُ بابل منه، والعنقاء

رماد منه لا يذكيه بعث فهو يستعرُ

ويتتالى مشهد الخيبات في حياة بدر، ولم يتوقف قطار الفقد في جيكور، ويحطّ  رحاله هذه المرّة في بغداد، وها هي بغداد شاهد على خيباته، وها هو يترنّح أمام سراب، آملاً منه حبّاً، وامرأة تحبّه. حسناوات بغداد احتفين به ليتغزّل بهن في أشعاره.. يحبّها ويتغزّل بها، لكنّها تتزوج من أحد الأثرياء، فيعمد إلى جراحه يداويها، ولا يخفي الشماتة بها حين تغيّر حال الزوج الثريّ:

وتلك كأن في غمازتيها يفتح السحر

عيون الفل واللبلاب، عافتني إلى قصر وسيارة

إلى زوج تغيّر منه حال، فهو في الحارة

فقير يقرأ الصحف القديمة عند باب الدار في استحياء

يحدثها عن الأمس الذي ولّى فيأكل قلبها الضجر

وحسناء بغداديّة أخرى تعرّف إليها وأحبّها في دار المعلمين حيث كان يدرس، وهي من عائلة ثريّة، سرعان ما باعته وتزوجت برجل من طبقتها لتعيش حياة اللهو والسهر والقمار، فيقول:

وتلك وزوجها عبدا مظاهر ليلها سهر

وخمر أو قمار ثم يوصد صبحها الإغفاء

عن النهر المكركر للشراع يرف تحت الشمس والأنداء

ولا يمضي وقت طويل حتى يتعرف في دار المعلمين أيضاً على لميعة عباس عمارة، الأديبة والشاعرة، وينظم فيها القصائد الجميلة، ولكن الدروب فرّقت الحبيبين، فتزوّجت لميعة،  واختار بدر النضال الحزبي، وما تبعه من تشرد وسجن، فيذكرها في قصيدته “أحبّيني”:

وتلك شاعرتي التي كانت هي الدنيا وما فيها

تفرقت الدروب بنا نسير لغير ما رجعة

وغيّبها ظلام السجن تؤنس ليلها شمعة

فتذكرني وتبكيني هنالك، غير أني لست أبكيها

أمّا مادلين، الفتاة العراقيّة من أصولٍ يهوديّة، رفيقته في الحزب الشيوعي العراقي، فلم يذكرها في عداد اللواتي أحبّهن ولم يحببنه، وكان غريمه في ذلك الأمين العام للحزب، وهو العضو البسيط فيه.

يشتدّ توقه للمرأة، ويختلط الوهم بالحقيقة، مع وجود فتيات يقتربن منه ليكتب فيهن غزلاً.. ويهيم باحثاً عن الحبّ الذي حرم منه..

فيكتب إلى “مستعيرات ديوان شعره”:

ديوانُ شعرٍ ملؤه غَزَلُ

بين العذارى باتَ ينتقلُ

أنفاسيَ الحرّى تهيمُ

على صفحاتهِ، والحُبُّ والأملُ

وستلتقي أنفاسُهنَّ بها

وترفُّ في جنباته القُبَلُ..

هو الحرمان يتفتّح أزاهير شعرٍ عند السيّاب، تنضح بها روحه المتعطّشة للحياة والحبّ..

تزوج إقبال في عام 1955، واحتلت مكانة في قلبه ورافقته في حله وترحاله، واحتلّت مكانة في شعره، فهي إقبال حيناً، وهي الزوجة حيناً آخر، وأمّ غيلان أيضاً، وهي آخر فصول الفقد في حياته الملفّعة بالأسى والألم.. لكن هذه المرّة هو الذي يغادر:

إقبال يا زوجتي الحبيبة

لا تعذليني ما المنايا بيدي

إقبال .. إن في دمي لوجهك انتظار

وفي يدي دم، إليك شدّه الحنين

ويضيف: إيه إقبال، لا تيأسي من رجوعي

مازال متمسّكاً بالحياة، والمرأة هي نافذته على الحياة، ولعلّه في آخر أيامه لازمه شعوره بالفقد، وأحسّ بأنّه يفقد كلّ شيء:

يا ليل أين هو العراق

أين الأحبة؟ أين أطفالي؟ وزوجتي والرفاق؟!..

أوّل فقد هو الأم، والأخير هو كلّ شيء!..

وأخيراً: غادرنا السيّاب مهشّم الروح والجسد.. تعبت روحه، ونحل جسمه، ورحل مسكوناً بالألم والمرارة، تاركاً إرثاً شعريّاً فارقاً على الساحة الأدبيّة.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »