Search
Close this search box.

عن خرائط المنطقة وانزياحاتها البشرية وهندسة مجتمعاتها بالدم

عن خرائط المنطقة وانزياحاتها البشرية وهندسة مجتمعاتها بالدم

فراس يونس

في عهدة تفسير مادي للتاريخ، غالباً ما يتوصل للاستنتاج العلمي إلى أن تاريخ البشرية لم يكن إلا تاريخ صراع طبقات وتناقض مصالح، على صعيد المجتمع وعلى صعيد الصراع بين الأمم والجماعات القومية. لكن، وفي نفس المستوى من الأهمية، فإن هذا التاريخ كان تاريخاً للانزياحات البشرية من أماكنها التاريخية والجغرافية، هذه السمة الجوهرية كانت سمة العالم القديم، كما كانت سمات العصور الحديثة على حد سواء، بحثاً عن مصادر الثروة المادية والمعنوية التي لاتقل أهمية عن الأولى في عملية نزاع دائم، هذه النزاعات غيرت في الإنسانية على أية حال، في عمليات تغذية متبادلة فيما بينهما. من هنا توارت الأسباب الحقيقية لمنازعات العالم القديم، التي غالباً ما كانت تتلطى وراء صراعات دينية وإيديولوجية.

 انزياحات وتبدل العوالم

هذا ما يؤكده أرنولد توينبي في إنجازه الأهم “تاريخ البشرية”، إذ على إثر كل هجوم عنيف قامت به شعوب “همجية” نسبياً، أدت هذه الاضطرابات إلى تنقلات سكانية هامة، وحتى المهاجمون الذين كانوا قد رُدوا على أعقابهم، انتهى بهم المطاف إلى الاستيلاء (عن طريق التسلل السلمي) على الأرض التي فشلوا في الحصول عليها بقوة السلاح، وترتب على ذلك في النهاية تبدل واسع النطاق في خارطة المدنيات الإقليمية القديمة للعالم القديم، فقد أضعف هذا الأمر المدنيات الأقدم منها، ودمرت مدنيات جديدة، كما ظهرت مدنيات جديدة في الصدوع الجغرافية التي تفتقت عنها الأنقاض.. وكان لانزياح الشعوب هذا أثر ثوري في استعادة توزع جغرافية العالم القديم.

كارثة سوريا الجديدة كما نشهد تتابع فصولها الآن، سبقتها نكبات في أزمنة متفاوتة في القدم، ولعل عملية الإفراغ السكاني كانت ضرباً من ضروب استراتجية المتنازعين، تمهيداً لخلق وقائع جديدة على الأرض بمنطق الغلبة والشوكة. ليس المقصود بسوريا جغرافيتها الحالية وحسب، لأنها كانت تضم في جنباتها لبنان الحالي وفلسطين وشرق الأردن. هذه “السوريا” نكبت بسبب انزياح الشعوب نحو 1250، 950 ق.م بنفس القسوة التي نكبت بها آسية الصغرى وحوض البحر الإيجي، من حيث الدمار المادي والتبديل في تركيب السكان، وعلى كلٍ فقد عادت الحياة إلى سوريا من الخراب المشترك الذي ألمَّ بالجميع، إذ كانت المدنية قد ضربت جذوراً أعمق فيها قبل أن يصيبها انزياح الشعوب. يفسر أرنولد توينبي الأمر بأن كلتا المدنيتين السومرية – الأكادية والمصرية كان قد مرَّ عليهما قرابة ألفي سنة وهما تتسربان إلى سوريا، وكانت هاتان المدنيتان المجاورتان متغلبتين إلى حد أنهما لم تُمَكِّنا سوريا من خلق مدنية أصيلة خاصة بها، حتى فقدت كل من مصر وبلاد بابل الكثير من الحيوية. إلا أن سوريا كانت حتى قبل الثوران الذي عمّ المشرق نحو 1250 ق.م قد بدأت تظهر قدرتها “الوطنية” على الخلق، وخطت خطواتها الأولى لاختراع الأبجدية التي أصبحت الآن بأشكالها المختلفة كتابة العالم بأكمله باستثناء شرق آسيا. وهكذا فإن إحدى الصفات المشتركة للمدنية التي ظهرت في بلاد الشام بعد هجرة وانزياح الشعوب نحو 1250، 950 ق.م كانت استعمال الألفباء لكتابة اللغات السامية المحلية، وأصبح المهاجرون البدو والرعاة زراعاً بسرعة حين استقروا في الأرض السورية.

كانت بلاد الشام مقسومة سياسياً بين عدد من الإمارات الصغيرة عندما انضمت إلى الإمبراطورية المصرية في القرن الخامس عشر ق.م، وكان أول أثر لانزياح الشعوب في تلك المرحلة هو حلُ هذا التضامن السياسي الشكلي الذي وجد تحت حكم الإمبراطورية المصرية. وبعد زوال السيطرة المصرية وحلول الحثيين في سوريا، عادت بلاد الشام إلى تمزق سياسي بحيث تجاوز الانقسام الذي كان سائداً في العهد السابق لأيام الفاتح المصري “تحوتمس الثالث”. أنشأ اللاجئون الحثيون عدداً من الإمارات المحلية المستقلة في ظل تنازع دائم فيما بينها، وهكذا فإن المدنية السورية بدأت مسيرتها المدنية في حالة تمزق سياسي، وبعدما أخذت الشعوب المهاجرة بالاستقرار، قامت في القرنين الحادي عشر والعاشر قبل الميلاد محاولتان متتاليتان من الجنوب لتوحيد بلاد الشام سياسياً، لكن المحاولتين باءتا بالفشل.

عبقرية المكان بين الوهم والحقيقة

ما من مكان استثنائي في العالم، كل العوالم استثنائية. ربما كان لمنطقتنا بعض الخصوصية، ليس بسبب موقعها الجغرافي، ولو جزئياً، إذ تقع في نقطة تقاطع ليس بين الأديان فحسب، بل وبين الثقافات. هنا تقاطعت ثقافات الشرق والغرب، الهيلينية والإغريقية والأرمنية والسورية والشرقية، وكذلك الأوربية والمسيحية والأفريقية والفينيقية، فضلاً عن قدرة هذه المنطقة على إنتاج ميراث معنوي كان له رنينه عبر الأزمنة وتأثير إشعاعه، تلك المنطقة التي أعطت الشياطين والقديسين والآلهة لآلاف من السنين كما كتب المفكر الراحل إدوارد سعيد.

 في حروبها المضنية وتمسك أقوامها بالأرض، حيث الزراعة في عمقها التاريخي في منطقتنا، كانت نشاطاً دينياً بقدر ما كانت نشاطاً اقتصادياً، فالغاية الرئيسية للديانة الزراعية هي أن ترعى خصب النباتات والحيوانات المدجنة، ومثلها خصب الكائنات البشرية التي كانت تحصل على قوتها بالعيش في تكامل مع أصناف الحيوات الأخرى تلك. لا تزال المنطقة وبشرها المعاصرون يواجهون عبث الخرائط التي يعاد رسمها خارج إرادتهم وهندسة مجتمعاتها بالدم.

لا سلام لشعوب منطقتنا إلا في الديمقراطية وإرادة العيش معاً، والتحرر من كل شرور الظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، أساس أي استقرار إنساني، وعودة المهجرين إلى مواطنهم وأعمالهم ومرابع طفولتهم، في قلب منطقة هي الأكثر اضطراباً في العالم، وقد أدمنت طواقم حكامها وأسيادهم خلف البحار الحروب والإفراغ السكاني وهوس الخلود العبثي.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »