Search
Close this search box.

أربعون يوماً على حافة الموت

أربعون يوماً على حافة الموت

شام المصري – سوريا

الغرفه مظلمه جدا وبصيص ضوء يتسلل خلسة من تحت الباب الفولاذي الأسود، اختفت جميع الألوان الكونيه أو ربّما اندمجت مع بعضها لتصبح لوناً واحداً هو الأسود.. أوّل ما يلفت انتباه الداخل الجديد إلينا هو دويٌّ عالٍ جداً لا يُحتمل، يشبه صوت تلك الآلة التي تستخدم لحفر الآبار، اسمه الشرّاق، هذا الصوت عشّش في سمعي طوال أربعين يوما!.. بعد حين، تأقلمت حدقتاي مع هذا الظلام وبدأت أتبيّن المكان من حولي، اقتربت الفتاتان مني وانهالتا علي بالأسئلة لماذا أحضروك ؟ وكيف؟ ومن أين؟…كنت أنظر اليهما وأستمع.. استجوابٌ من نوع آخر، وأسلوب مكشوف لاستكمال معلومات لم ولن يحصلوا عليها أثناء التحقيق.

برغم الفراغ الذي أصاب ذاكرتي من هول الصدمة، إلا أن انتباهي ظلّ متيقِّظاً!.. هذه الفتاة مازالت ساعة يدها بحوزتها؟! ممنوع دخول أي شيء إلى الزنزانة، نُجرَّد من كل مقتنياتنا ماعدا الثياب التي نرتديها. تعارفنا بالأسماء، فتذكرت ساعة وصولي إلى النظارة لتسليم أماناتي للسجان، لفت نظري حقيبة كتب عليها اسمها، وكأنها وضعت للتوّ، راودني إحساس بأنها منهم.

مازلت أستمع وأراقب وأحلِّل ثم أجيب باختصارٍ شديد. فجأة فُتحت “الطاقه” الموجودة بأعلى الباب وصرخ أحد العناصر “القصعات”، لم أفهم ماذا يريد لم أسمع هذه الكلمه من قبل – عرفت لاحقاً أنها عربية فصيحة – سألت إحداهن؟ قالت: إناء الطعام البلاستيكي. ناولَتْهم إياه، وبعد قليل عاد الطرق مرّةً أخرى، حمدت الله أن هذا الباب من الحديد وإلا لخلع من مكانه، وكان العشاء الأوّل “شوربة العدس المجروش”، لكن يلزمنا فريق غطس لنكتشف أين العدس، أمّا الرائحة فكانت تبعث على الغثيان، تمنيت لو كان معي كمّامة… إذاً، هو الخبز، صديقي لأبقى على قيد الحياة.. بدأت الفتاتان تأكلان وتحاولان إقناعي به، مازلت في حالة شبه غيبوبة .. أنظر اليهما.. أرى الشفاه تتحرك، إلا أنّني لا اسمع، لا أصدق.. لن أبقى هنا، بعد قليل سيفتح الباب وأخرج سأنتظرهم… سأنتظر بين أمل وحلم سيتحقق، دام انتظاري أربعين يوماً.

تخطيت خطوط النظام الحمر ولن أُستثنى من العقاب أبداً. راقبت تصرفات الفتاتين وكيف تتحدثان مع العناصر بسلاسة وطلاقة، وكأنهما على معرفة سابقة، وتتأكد ظنوني. لم أحاول التعاطي مع أحد، كان الصمت رفيقي دائما. وفي اليوم الرابع وبينما هي تكلّم أحد العناصر من “الطاقة”، أصابني الذهول لما رأيت!.. هاتفا خليويا بيدها تناولته خِلسة ووضعته في ثيابها قبل أن تستدير باتجاه الكاميرا داخل الغرفه، مشت بهدوء الى المرحاض وأجرت مكالمة منه. تخبّطت أفكاري ..أأطلب الهاتف منها.. لا لن أفعل فالمكالمات مسجله ومراقبه.

بالفعل هذه الفتاة مدسوسة، احترت قليلا، لكن بسرعة حسمت أمري وطلبته لأجري مكالمه، لا أريد أن أضيّع هذه الفرصه!.. نعم هي فرصة.. طلبت الهاتف فوافقت، دخلت إلى المرحاض فتبعتني، لم أهتم ليس لدي الوقت لذلك، الرقم .. ما الرقم؟ ثوانٍ وكأنّها ساعات.. رقم زوجي تذكرته اتصلت به ظنا مني أن ولدي أصبح بأمانته .. رنّ الهاتف.. ردّ علي.. تكلمت بعجلة أنا بالفرع.. فانقطع الاتصال، تذكّرت هاتف منزل عائلتي.. طلبته.. ردّ ابني، فاطمأنّ قلبي أنّه عند والدتي.. “كيفك ماما أنت بخير طمني عنك؟ فملأ صراخه أذنيّ.. ماما ماما وينك؟ لا تخف أنا بخير مادمت أنت بخير. أخذت أمّي الهاتف وقالت: يا ماما لا تخافي نحنا كلنا بخير، كوني قويّة كلنا معك وما رح نتركك..” كانت كلماتها شحنة قويّة من الطاقة أخرجتني من تيهي ورفعتني عالياً إلى السماء.

لم أعهدها بهذه القوة، وكنت لم أرَ منها سوى الخوف واللوم، بلمح البصر عاد جزءٌ من ذاكرتي، وطلبت منهم إغلاق وحذف جميع حساباتي الإلكترونية على الفور، هذا الهاتف المعجزة!.. رغم علمي بأن المكالمة مسجلة، فليحدث ما يحدث لي، وليبقَ الآخرون بمأمن، هذا كل ما تمنيته وقتها..

لحسن الحظ لم يطلب مني المحقق فتح حساباتي إلا بعد عشرة أيام تقريباً، فأعطيتهم حساباتي مطمئنة أنهم لن يصلو إلى شيء، خصوصاً أنني لاحظت أن أسلوب وطريقة التحقيق أصبحت أميَل إلى اللباقة، إلا حينما أستفزهم بإجابتي المهذبة والغبية، كانوا يستشيطون غيظاً ويضربون أكفّهم على الحائط وكأنهم لا يريدون أذيتي، بمرور الوقت بطيئاً بدأت التأقلم مع المكان، أصبح لدي دافع أكبر للعيش والخروج لن أُهزم أو أضعف!..

البرد والظلمة وصوت ذلك الشرّاق أصبح جزءاً مني كما المكان، معطفي الجلدي وسادتي فوق الحرامات المتسخة التي ننام ونجلس عليها ونتدفأ بها، وعندما يشتدّ البرد أمارس قليلاً من الرياضة والمشي، ثلاث خطوات إلى آخر الغرفة ومثلهم عودة، ننام على أصوات الحرّاس ودخانهم، ونستيقظ على خيط رفيع من الشمس يدخل إلى أعلى هذه الغرفة لينبئنا بصباح يوم جديد واستجواب وانتظار واستقبال معتقلات جدد.

نسلّي أنفسنا بالغناء أحياناً والبكاء أحياناً أخرى، بالنسبة لي أسلّي نفسي باستذكار جميع الأسئلة، وإجاباتي الكاذبة حتى لا تتغير إفادتي عند طرح السؤال مرة أخرى.

مرّت الأيام واستدعيت إحدى الفتيات للتحقيق، وعندما عادت أخبرتنا بأنهم عرفوا بقصة الهاتف وكان استدعاؤها للتحقيق قليلاً جداً ما يدلّ أنها “مدسوسة”، وبلغتهم “مندوبة” داخل السجن تنقل لهم المعلومات التي نتداولها. فاتفقنا على توحيد كلامنا حتى أطمئنها.. استدعيت بعدها للتحقيق، وكان تحقيقاً وضبطاً جديداً لا علاقة له بموضوع اعتقالي، عوقبنا بحرماننا من التحقيق ومن فتح الطاقة أو التكلم مع السجان مدة عشرين يوماً..

غصّت الغرفة بالمعتقلات، واضطررنا للتخلي عن بعض الحرامات التي تحتنا للأخريات، فكانت الكارثة حيث تحركت أفواج القمل وكأنها تستيقظ من سباتها الشتويّ رغم أنّ الصيف لم يأتِ بعد!.. هنا بدأت مرحلة تعذيب من نوع جديد.. لا نوم.. لا راحة.. لا استحمام.. لا.. لا..

ذكرتُ بأنّنا كنا ثلاث نساء، وقد أغفلت قصة الفتاة الثانية التي أحضروها من إحدى المشافي بعد خروجها من غرفة العمليات بساعة، وكانت تخضع لعملية جراحية، تم اعتقالها وهي ما زالت في طور الإنعاش، أحضروها مع جهاز السيروم تحمله بيدها لم أتخيل أإلى هذا الحد؟!.. لم ينتظروا حتى شفائها أو ليوم آخر على الأقلّ بعد الجراحة، كانت تبكي حالها وبناتها الأربعة طوال الوقت، ونحاول أن نهدىء من روعها ونخفّف عنها، لكنّ ألَمَ الجرحِ ما الذي يهدئه؟!.. كان دواؤها عند السجان بالقطارة، وضمادها نحن طلبناه لها لنغير لها عن الجرح ونعقّمه، في هذه العتمة طلبنا مصباحاً صغيراً، بعد جهد جهيد أعطونا ولاعة بدون غاز، فيها ضوء صغير كان هذا مصدر الضوء الوحيد في الغرفة. كان جسمها ضعيفاً يحتاج إلى عناية ومراقبة. مرّت الأيام وأُسعفَتْ إلى المستشفى مرات عدّة، فقط خلال النهار، كانوا يخافون الخروج من الفرع ليلاً..

أمّا الطبيب فكان يأتي كل أسبوعين مرة، يسأل السجان: هل هناك أحد يريد طبيب؟ فكانت بعض النسوة تستشرنه أما الفحص والمعاينة كان من خلف الباب الحديدي، وجميع الأمراض لها دواء واحد عندهم هو السيتامول. خلال فترة وجودي ساء وضعي الصحيّ بسبب سوء التغذية وإضرابي عن الطعام مرتين دون فائدة، أصبح جسمي نحيلاً جداً فأصبت بـ “إنفلونزا شديدة”، كانوا يرونني من خلال الكاميرا ويرسلون السجان يسألني إذا كنت أريد شيئاً؟ وكنت أرفض دواءهم وطبيبهم، داويت نفسي بالبصل اليابس الذي كانوا يحضرونه لنا..

في غرفة التحقيق آخر أيامي في هذا المكان أجلسوني على كرسي خشبي قبالة نافذة مستطيلة من الزجاج، كنت أحاول أن أرى ملامحي فيها ولكن عبثاً بسبب الخلل الذي أصاب عيني من امتداد عصر الظلمة هناك، لن أنكر أن الشخصين اللذين حققا معي أحدهما كان متعاوناً في كتابة الضبط ولن أذكر تفاصيل أخرى… وحسب ملاحظتي لم يكن له غاية سوى المساعدة.

وكلنا نعلم أن هناك مواطنين ما زالوا يعملون لدى النظام لا حول لهم ولا قوة وبمكانهم هذا كانوا عوناً لنا!..

انقضت التسعة والثلاثون يوماً، وأرسل المحقق في طلبي ليخبرني أنني سأحوّل إلى المحكمة، وماذا عليّ أن أفعل أمام القاضي وماذا أقول وسيخلى سبيلي فوراً، ثم أعادني إلى الظلمة، السجن..

لم أصدق فلا يقين هنا في هذا المكان، لكن الأمل بداخلي هو اليقين الوحيد الذي أبقاني على قيد الحياة في ظروف كهذه. لم أنم ليلتها، وفي الصباح نادوا اسمي لأجهز نفسي للخروج لترحيلنا إلى المحكمة، أجلسوني في غرفة السجّان ريثما يتمّ تجهيز سلسلة الشباب المعتقلين لترحيلهم معي، استغرق ذلك حتى الساعة الثانية ظهراً على غير العادة، فالترحيل يتمّ التاسعة صباحاً.

كنت المرأة الوحيدة بينهم، ساقونا إلى الباص بحراسة مشددة إلى محكمة مدنية، لم تكن محكمة الإرهاب قد باشرت عملها بعد، ولأوّل مرّةٍ منذ أربعين يوماً أرى الشمس وشوارع دمشق!.. وها أنا أحاول استذكار بصماتي في تلك الشوارع إلى أن وصلنا، كانت المحكمة أشبه بسوق يباع فيه كل شيء ويشترى.. وليس هذا بغريب، فأنت في “سوريا الأسد”!..

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »